التوبة عبادة أُهمِلت وأسيء فهمها، وظنها كثير من الناس لا تكون إلا بعد الذنب،
وليس هذا هو المعنى المراد بالتوبة، فالتوبة هي اللجوء الدائم إلى الله سبحانه وتعالى
والإنابة إليه في كل حين، فكما يجدد الإنسان طهارته عند كل صلاة، فإن عليه أن
يجدد توبته في كل يوم، فتوبة الله على العبد مطلب ومبتغى لكل مؤمن أواه منيب،
فالله عز وجل قال عن نبيه ﷺ: ﴿ لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ١١٧ ﴾ فالنبي ﷺ قد غفر الله له
ماتقدم من ذنبه وما تأخر فلو كانت التوبة من الذنب لما نزلت هذه الآية في النبي
وأفضل الصحابة ، فالتوبة تشمل العودة بعد المعصية وكذا أن الله يرزق عبده الإنابة
إلى أمره وطاعته، فالله عز وجل يكفر الخطايا بالتوبة، و يزيد الحسنات، ويمتع
التائبين إليه متاعًا حسنًا ، ويزيد في قوتهم البدنية والمالية والعلمية، ويزيد أموالهم
وذرياتهم، ويمد في أمدهم ويجيرهم من عذاب النار مصداقًا لقوله ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ويبدل سيئاتهم حسنات، ويجازيهم بالجنات، ويرسل السماء
مدرارًا على التائبين والمستغفرين، فخير دليل على أهمية التوبة وخير من يحتذى به
ويُقتفى أثره، هو حبيب الله ﷺ مغفور الذنب، حيث كان يستغفر
ويتوب كل يوم، حيث عُدّ في مجلسه كم من مرة استغفر فقال عنه صحابته أنه كان
يستغفر الله ويتوب إليه مئة مرة، فما حال أقوام مثلنا لم يرزقوا العصمة، ولا تكاد
تحصى ذنوبنا، فالواجب علينا التواصي بالحق ومن الحق الحرص على التوبة
والإنابة إلى الله في جميع الأوقات، ولا شك أن حاجة العبد إلى التوبة بعد الذنب تكون
آكد، ويكون العبد أشد حاجة إليها في ذلك الوقت، وكل بنو آدم خطاؤن وخير
الخطائين التوابون، ويجب الحذر من التسويف، فالمبادرة إلى الله والإنابة إليه واجبة
على العبد بعد كل عمل خاصة لو وقع في منكر، والله بفضله وكرمه ومنته على خلقه
ورحمته بهم أخبر في آيات كثيرة عن فضل التوبة من كل ذنب وأي ذنب مهما عظم،
فالله يتوب على الكبيرة والصغيرة والشرك والكفر وعلى الخطأ والعمد، إذا ما
توافرت فيه شروطها المعروفة، وهي الندم والإقلاع والصدق ورد المظالم، وأما
التوبة التي لا تتبع الذنب فليس لها شروط وإنما هي كالذكر في مزاولتها والأخذ بها.
وبالتوبة يغفر الله الذنوب ويمحو الخطيئات، فالذنوب منها ما لا يغفر إلا بتوبة صادقة
نصوح، ومنها ما يغفر من بعض أنواع العبادات، فالله جل وعلا جعل مغفرة الذنوب
الصغيرة بفعل بعض العبادات، كالصلوات الخمس وصيام رمضان والذكر، بينما
معظم الذنوب الكبيرة، والارتداد عن الدين، والشرك، وغيرها، لا يغفرها الله إلا
بالتوبة، وجعل الله للتوبة صور عدة تيسيرًا للعباد وتسهيلًا لفعلها في كل حول
وزمان، فمنها القول كقوله ﷺ ((ربي اغفر لي وتب عليّ إنك أنت
التواب الرحيم)) ومنها ما ورد عن النبي ﷺ أنَّه
قالَ ((مَن توضَّأَ فأحسنَ و ضوءَه ثُمَّ صلَّى رَكعَتينِ لا يسهو فيهِما غُفِرَ لَه ما
تقدَّمَ مِن ذَنبِهِ)) ومنها الحج الذي لا يخالط رفثًا ولا فسقًا، وهلمّ جرًّا، ويجب صرفها
لله سبحانه وحده لا شريك له، فلا توبة لمن خاف الناس ولا من ارتجى منهم نفعًا
فهؤلاء فعلوها لمرضاة الناس لا لمرضاة رب الناس
وفي أبيات الدكتور إبراهيم البديوي من جميل الكلمات وأروعها ما يستجمل بقوله
على السعي وراء رضى الله دون الاكتراث لأحد:
فليرضى عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاك
فالناس لا ترتجى منهم منفعة أو دفع مضرة، ففي الحديث عن النبي
ﷺ يقول ((....واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم
ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك ولو اجتمعوا على أن يَضروك لم يَضروك إلا بشيٍء
قد كتبهُ اللهُ عليك...))
والتوبة لم تخصص بوقت ولم تقيد بزمان، فكل زمان وفي أي موضع باب التوبة فيه
مفتوح، عدا وقتين ليس للإنسان من أمره شيء فيهما، من جاءه فهو محاسب على ما
فعل سواء تاب أم لم يتب في حينهما، فالأول شروق الشمس من المغرب، وهذا ليس
لعامة الخلق، أدركه من كُتب له الإدراك، وسَلِم منه من جاءته منيته قبل ذلك الوقت،
أما الثاني فهو عام لكل الخلق، وهو وقت منية من تيقن منيته، ولا يشمل ذلك من تاب
ثم توفى بعدها من غير درايته بأنه سيموت، بل من كان على بينة أن أجله قد حان،
فتاب مما استلذته نفسه في الدنيا، واستيسرته، وتلك توبة فرعون مصر الذي ردت
توبته وإيمانه على وجهه بعد أن طغى وتكبر، فحريّ علينا أن نتوب في كل وقت،
فلا تعلم النفوس متى أجلها الذي إن حان فلا مقدم له ولا مؤخر أجارنا الله من النار.