الحمد لله خالق الخلق ومدبرهم، ورازق العباد وكافيهم، وإليه مرجعهم، وعليه حسابهم، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على عطائه وإحسانه، ذات يوم خرج رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: ما أخرجكما من بيوتكما الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوما. فقاما معه، فأتى رجل من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً منا. فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر ثم جاء بشاة فذبحها فأكلوا حتى شبعوا، فلما شبعوا ورووا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: "والذي نفسي بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة" أخرجه مسلم.
يخبر الرسول الكريم صاحبيه أنهم مسئولون عن هذه النعمة التي جاءت بعد الجوع الشديد، فما أعجب هذه القصة!! وما أقوى أثرها في النفوس.
فكم شبعنا وروينا بل وتمتعنا بما نأكل من غير جوع فهل تفكرنا بهذه النعم ؟ أريد أن أبيّن عظم تلك النعم وأريد أن تفهم وأفهم ونرعي سمعنا إلى قوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى، وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى). [81ـ82طه]
وللأسف الشديد انتشرت في الآونة الأخيرة عبر مقاطع "الفيديو" في برامج التواصل الاجتماعي مقاطع مؤسفة لشريحة من المجتمع يتلاعبون بالنعم ويستحقرونها من اجل تكريم (فلان و فلان )! ويعتقدون أن ذلك من صميم الكرم والجود.
ومن تلك المقاطع شاهدنا من يقوم بتنشيف أنفه بالفلوس و من يحرق فلوسه ومن يدهس فلوس فئة " خمسمائة " ريال اتمنى ان نتسابق لاستنكار هذه التصرفات في وسائل التواصل الاجتماعي ومحاربة مظاهر المجاهرة بالإسراف بما يغضب الله تعالى ، فديننا يأمرنا أن نبرأ من أفعال هؤلاء السفهاء ، وهذا يتزامن مع الوقت الذي تعج فيه وسائل الإعلام بصور ومقاطع من حولنا من إخواننا في بلدان مجاورة يموتون جوعاً وهلاكاً ودمار وحروب ، وفي المقابل هؤلاء بالمقاطع يضحكون ويبطرون بالنعم في غفلة وفرح. شتان بين الفريقين من أعطاه الله النعمة ومن سلبها منه.
يقول أحد العلماء "ما زلت أحلم بمجتمع لا يستحي فيه الفقير من فقره , بل يستحي فيه الغني من التباهي بالترف" ، يقول احد كبار السن لأولاده :
يا أبنائي قد حدثناكم عن جوع مرّ بنا وإني لأخشى أن تحدثوا أبنائكم عن نعمة مرّت بكم !
وشاهدنا كذلك من يجلس كل واحد منهم على مائدة بمفرده ، بحد زعمهم أن هذا غاية الكرم!! ولم يتخيل هذا المسكين لو كان بمحل أحد الفقراء الذين يشاهدونه وقلوبهم منكسرة وربما دعاء عليه وحسده.
وشاهدنا كذلك من يرمي الفلوس على الإبل لكي تأكلها ، وأتمنى لو نرسل هذا المسرف لأحد الدول الفقيرة ويشاهد الفقراء بعينه ليعرف نعمة الله عليه. قال الله تعالى ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربِّه كفُورًا) وهذي الآية تكفي علامة عن ألف موعظة ، لتشابه المبذر بالشيطان كأخ له في عمله المشين ، قال رسول الله ﷺ -: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة" حديث صحيح رواه النسائي وابن ماجه .
وشاهدنا كذلك من ينثر "الهيل" بالمجلس إكراماً للضيف!! وهذا ليس من الكرم في شيء فالكرم هو أن تشبعه من غير إسراف ولا مخيلة ورياء وسمعة ، فالبعض من الناس لا يجد عمل ووظيفة ، ونخشى أن يكون من هؤلاء المسرفين من يتمنى الوظيفة والمال غداً فلا يجده ، فوالله إننا في نعمة نسأل الله أن لا يغيّرها علينا وكل صاحب نعمة محسود ، فَاتَّقُوا الله يا عباد الله في نعمة الله ، وفضله عليكم.
قيل ليوسف عليه السلام : لماذا تصوم وأنت على خزائن الأرض؟ قال أخشى أن اشبع فأنسى الجائع.
وفي عام الرمادة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوشك الناس على الهلاك من الجوع فكان عمر وهو يخطب على المنبر وبطنه يقرقر من الجوع فيضع اصبعه على بطنه ويقول قرقر او لا تقرقر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين .
وفي عام ١٣٢٧ في نجد وما حولها وقع جوع وقحط بالأمطار كاد الموت يفتك بالناس من الجوع حتى أكلوا الميته وورق الشجر وطبخوا الجلود والعظام ، ومازال البعض من كبار السن يتذكر هذي المجاعة ، بل من قبل كانت تأتي الزكاة من السودان والصومال ومصر لجزيرة العرب لكثرة الفقراء حول الحرم المكي الذي يفدون له من كل مكان.
وشاهدنا كذلك من يشعل حطب قيمته عالية ومن يسكب السمن الكثير على الموائد وشاهدنا كذلك من يغسلون أيديهم بعد الطعام بدهن العود وشاهدنا كذلك من يصب دهن العود في المجالس بطريقة فيها إسراف وإثارة للمشاهدين ، يقول أحد الحكماء "من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: الدين والعرض" ، ويقول أحد الأشخاص قابلت عامل آسيوي يبكي وسألته مابك فقال أنظر إلى القمامة عندكم ، وكنا في نعيم أكثر منكم ولم نشكره فعاقبنا الله على البطر وكفران النعمة.
وفعلاً من يتأمل حال بعض البلدان التي عاشت رغداً من العيش ثم افتقدت تلك النعمة والأمن وصار أهلها لايجدون لقمة العيش ، لايملك إلا استنكار مايفعله بعض المبذرين في بلدانا ، قال الله تعالى : {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }. وحتى تدوم النعم لابد من المحافظة عليها ، يقول الله تعالى :﴿ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه}.
وما كان منا من الشكر فهو لنا ، وما كان من الله من النعمة فهو إلينا وله المنة والفضل علينا. قال الله تعالى ( ومن يشكر فإنما لنفسه )
قال الله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }. يقول أحد هؤلاء المسرفين هذي عادات وتقاليد وأقول لو سمع هذا حال هذا البلد ومآمر به من فقر وغربة أهله قديماً عن الأهل والوطن من أجل البحث عن لقمة عيشه لأعتبر وانزجر ، فالخبز الذي يكافح من أجله الفقراء يضعه الأغنياء زينة على المائدة ! المرأة في حفلات الزواج تشتري فستان بأعلى الأثمان تلبسه مره أو مرتين ثم ترميه هذا مع ما تشتريه من مكياج وأجهزة ومتاع وأثاث وتجهيزات للحفلات ومناسبات الزواج كلها محاكات ومضاهاة للناس والله المستعان، و ليس كل الأغنياء مسرفين بل وجد أغنياء يعرفون نعمة الله عليهن ويقدرونها حق قدرها، بعكس من أعطاه الله النعمة ولم يقدرها ويشكرها قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) ونحن مسؤولون عن هذه النعم هل شكرنا الله عليها ؟ والنعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت.
اللهم لك الحمد على نعمك التي لاتعد ولا تحصى اللهم اجعلنا شاكرين محافظين على نعمك ، فلابد من ردع هؤلاء ولابد من تربية الجيل على حفظ النعمة ولابد من حملة إعلامية ومحاربة هذا الإسراف الذي يعتقد صاحبة أنها من "سلوم" وكرم الرجال فيتفاخرون بالمال والأولاد.
وهذا الذي شاهدناه من مقاطع ومشاهد قال تعالى حكاية عن أمثالهم
( أنا أكثر منك مالاً و أعز نفراً )
العاقبة : ( فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ) وللأسف أن يكون التفاخر أمام كاميرات الجوال فالكرم حقيقة هو إغاثة الملهوف وسد جوعة الفقير وإخراج زكاة المال وأداء الحقوق قولاً وفعلاً.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك ، اللهم لا تؤخذنا بما فعل السفهاء منا.