وهذا إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذّب عذاباً شديداً، لكنه بعد تلك المحنة يصفح عن كل من أساء إليه أبان سجنه فيقول لأحدهم: "أنت في حل، وكل من ذكرني في حل، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حل" يعني المعتصم أمير المؤمنين رأيت الله يقول: {و لْيَعْفُوا و لْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. وما ينفك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وله موقف آخر، رحمه الله حين قيل له نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال: إذا لم تكتب عنه فعمن يكون ذلك؟ قالها مراراً، فقيل له: إنه يتكلم فيك، قال: رجل صالح، ابتُلِي فينا فما نعمل؟" فلم يمنعه كون الرجل يتكلم فيه من تزكيته، لأن قلبه قد سلم من الغل والبغضاء والشحناء.
- قلب سليم محمود:
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقف من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفا قائلاً: "لا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، والذين كتبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحداً أجمع لخصال الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشَّره بموت أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزَّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانه".
إذا كان هذا كذلك فسلامة القلب والصدر ليست السذاجة والضعف وليست هي القلب الذي يسهل خداعه والضحك عليه كلا، بل إن سلامة القلب كما قال ابن تيمية رحمه الله: "القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، ومآل ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به".
وبعد فإن لسلامة الصدر أسباباً ومن تلك الأسباب:
1- الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً: «ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم إخلاص العمل لله عزَّ وجلَّ ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين» (رواه أحمد بسند صحيح)، قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسّك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
2- ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على الله وعلى كتابه الذي أنزله شفاءً لما في الصدور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. فكلما أقبل العبد على كتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وفهماً صلح صدره وسلم قلبه، فلذا كان الصحابة مصاحف تمشي على الأرض من شدة تطبيقهم لما فيه.
3- الدعاء:
ومن أسباب سلامة الصدر أن تلهج بدعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الغل والضغينة والحقد والحسد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. ومن طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَ لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
4- ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن، فبئس مطية الرجل زعموا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تنابزوا، وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان)، فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي هو مصدر الشرور كلها المذكورة في الحديث، فطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلا.