بسم الله الرحمن الرحيم
صفة جليلة ، ومقام سامي ، يتصف به القليل من الناس ، يتصف بها أناس صدورهم تبتلع الكلمات النابية ، والأخلاق الذميمة التي تواجهها ، فتحرقها في فنائها ، ولا تبقيها ولا تذر ، رجال قادرون على الانتقام ، وألسنتهم تتحرك كما تشاء ، ولكنهم لا يحركونها إلا في حدود ما يرضي الله تعالى ، وردود أفعالهم لا تشبه أفعال الناس ، تنطبق عليهم نظرية الانطلاق نحو الأعلى التي تقول : ( لكل فعل رد فعل مساو له في الحروف ، مضاد له في المعاني والصفات ) ، فتجدهم كشجرة تدلت ثمارها ، ونضجت ، وجاءها السفهاء يرجمونها بالحجارة ، ويطالبونها بالثمار ، فلم تغضب ، ولم تقل لهم لا ترجموني حتى أعطيكم من ثماري ، بل بادرت بإنزال الثمار إليهم ، ولسان حالها ، لكل منا بضاعته التي تعبر عنه ، فبضاعتكم الحجار ، وبضاعتي الثمار.
لا شك أنك عزيز القارئ قد أدركت ما هي الصفة التي أقصد ، وعلمت أنها صفة ( كتم الغيظ ) ، هذه الصفة التي تتجلى قيمتها في قول الله تعالى : ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) ، إذن من هذه الآية الكريمة يتبين لنا أنه لا يقدر على هذه الصفة ضعيف الهمة ، ولا يتحملها دنيء الطموح ، إنها قيمة عظيمة وصفة عليا ، يسعى لتحصيلها المتطلع إلى عزم الأمور ، والطامح إلى أخلاق النبلاء ، وصفات الشرفاء من الناس.
في الحقيقة إن الإساءة حينما تتجه لذلك الإنسان الحليم ، ستدور في باله الكثير من الردود التي لو قالها لأوقع السفيه في وحل أخلاقه ، وكبله بحبل كلامه ، ولكنه يتأنى قليلاً ويلتفت إلى القيمة التي يتحلى بها ، والمقام الذي يتألق به ، فلا يكون أمامه إلا الصبر وكتم الغيظ ، الذي يتناسب مع مكانته ، وهمته العالية ، واضعاً نصب عينيه قوله تعالى : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ، إنه يتصف بصفات عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ، وما أعظم الصفة ، وما أجل المتصفين.
عجباً للحليم ، ما أروع تحكمه بهواه ، وما أعظم قيادته لنفسه ، لو افترضنا أن هناك جهازي تصنت ، ووضعنا جهازاً بجانب فم حليم ، والجهاز الآخر بالقرب من فم سفيه ، ثم فتحنا الجهازين بعد أسبوع فقط ، وبدأنا نتعقب الكلمات التي صدرت من الحليم ، والكلمات التي صدرت من السفيه ، لعلمنا بالفعل أن اللسان ترفع صاحبها إلى عليين ، أو تكب صاحبها على منخره في نار جهنم والعياذ بالله ، ولتذكرنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويل لمعاذ بن جبل قائلاً له عن حال اللسان وصاحبها : ( ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ).
أختم رسالتي هذه بوصية للقارئ العزيز ، أن يتحلى بالصبر ، وأن يوسع صدره لكل الناس عامة ، ولمن هم دونه خاصة ، فإن الصبر على الضعيف أعظم أجراً عند الله من الصبر على القوي ، أو المساوي في القوة.
فإن كان لديك خادم أو سائق فلا تستخدم الغضب المشين لنيل مطالبك منه ، وتذكر تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خادمه أنس رضي الله عنه ، وانظر ماذا قال أنس شاهداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن المعاملة ، يقول أنس رضي الله عنه : ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت كذا ، ولا لشيء لم أفعله ، لما لم تفعل كذا ) ، صلى الله عليك وسلم يا حبيبي يا رسول الله ، وصدق الله إذ يقول عنك ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ).
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، والحمد لله رب العالمين ،،،،،،