أمَّا بعدُ:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 39- 40].
أيها المسلمون، مضتْ من عامنا فترة مُشرِقة، وانقضتْ أيَّام مُضيئة مُبَارَكة، وَلَّتْ عشر ذي الحجة بخيراتها وبركاتها، وها هي أيام التشريق تودِّع مع مَغيب شمس هذا اليوم، صامَ مَن صام، وحجَّ مَن حجَّ، وضحَّى مَن ضحَّى، وتصدَّق مَن تصدَّق، وعجَّ بالتكبير مَن عجَّ به، وسبَقَ مَن سبَقَ ممن سارَع وتقدَّم، وتأخَّر مَن تأخَّر ممن تباطَأ وأحْجَمَ، وهكذا هي المواسم الفاضلة وفُرَص الطاعة تمرُّ كلَمْح البصر أو هي أعجل وأسرع، يتزوَّد منها مُوفَّق، فينال بفضْل ربِّه الأجرَ المضاعَف، ويَكسب الحسنات الكثيرة، ويتقاعَس مُفرط فيَحرم نفسَه ما لو قدَّمه لوجده عند ربِّه وافيًا؛ قال - سبحانه -: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123- 124].
وفي الحديث القُدسي الذي رواه مسلم قال الله - تبارك وتعالى -: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجَد خيرًا فليَحْمد الله، ومَن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه".
نعم - إخوة الإيمان - لقد أنزَل الله الكتبَ وأَرْسَل الرسل، وأوضَح المحجة، ولَم يتركْ لأحد عليه عذرًا ولا حجة؛ قال - سبحانه -: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165]، وقال: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [يونس: 108].
أيها المسلمون، إنَّ مِن جزاء الحسنة وعلامة قَبولها أن يوفَّق العبد بعدها لاكتساب الْحَسنات، وأنْ تُفتح له أبواب الخيرات والبركات، وأنْ يُهْدَى للأعمال المضاعفات، فلا تراه يقفو الْحَسَنة إلا بالحسنة، ولا يُتْبِع الخير إلا خيرًا، وهو وإنْ ضاعَفَ الْجُهد في مواسم الخير، واغْتنمَ الأيام الفاضلة، فإنه لا ينفك يتقرَّب إلى ربِّه بصالح العمل في كلِّ وقتٍ وحين، دافعه في ذلك وحادِيه قوله - جل وعلا - لنبيِّه - عليه الصلاة والسلام - وللأُمَّة من بعده: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
وإنَّ استدامة العبدِ العملَ الصالِح واستمراره في التعبُّد، لدليلٌ على حياة قلبه وطَمْأَنينة نفسه، وإنَّ من فضْل الله على عباده وعظيم مَنِّه أنَّ فُرَص التزود لَم تكن مقصورة على مكان دون مكان، ولا زمان دون آخرَ، بل للمؤمن في كلِّ يوم وليلة فُرَص مُهيَّأة، وما عليه إلا الْحِرص على ما ينفعه، ونِيَّة الخير وعدم العجز، والتوكُّل على ربِّه، والْحَذَر من الموانع والمثبِّطات، والتي من أخطرها عدوُّه اللدود الشيطان، ثم إيثار الدنيا واتِّباع هوى النفس الأمَّارة بالسوء؛ قال - سبحانه -: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، وقال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات : 37 - 41].