الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم، أرسل محمدا بالهدى والرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جاء بالرحمة للعالمين، - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الرحماء فيما بينهم.
أما بعد:
(ما شيء أجده في قلبي ألذُّ عندي من قيام الليل) ما كان للإمام التابعي الجليل ثابت البناني - رحمه الله تعالى- أن يقول هذا إلا بعدما زكت نفسه، وصلح قلبه، وطابت حياته، بعدما تعرض لنفحات الله في أسحار الليالي، وذاق لذة مناجاته في الأوقات الخوالي، فسبحان من تفضل على عباده بهذا النعيم قبل لقائه، وبصرهم بطريق السعادة، ورزقهم لذة هذه العبادة، فهم بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم ولولا الليل ما أحبوا البقاء بالدنيا.
فنعمة قيام المسلم بالليل، هي من توفيق الله له، وإعانته على طاعته، والتقرب إليه بعبادته، فهي شعار الصالحين، ومن سمات عباد الله المتقين، ومن الأسباب العظيمة الموجبة لدخول الجنة بعد رحمة أرحم الراحمين.
وبما أن النساء شقائق الرجال فللعابدات المتهجدات ذكر عال في هذا المقام يزينه فعل أمهات المؤمنين اللاتي تربين على ذلك من مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقامت معه خديجة - رضي الله عنها- في أول الأمـر حين جاء الأمر بـ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).
وهذه الصديقة عائشة - رضي الله عنها- الصوامة القوامة روي عنها أنها قامت في آية واحدة، وهي قوله تعالى: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)، ترددها وتتدبرها وتبكي.
وأم المؤمنين حفصة بنت الفاروق - رضي الله عنها- تظفر بتزكية عالية من الروح الأمين لمداومتها على هذه العبادة، فقد روي أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (راجع حفصة فإنها صوامة قوامة). [أخرجه الحاكم، وصحح إسناده الهيثمي والسيوطي، وحسنه الألباني ]
فيا من يريد التدبر والانتفاع والتأثر والخشوع والشفاء؛ الزم هذا الباب العظيم الذي وصى به رب العزة في كتابه، وحث عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وداوم على فعله، وتبعه أصحابه وتابعيهم، ففي ذلك من الكنوز العظيمة، والخيرات الكثيرة مالا يحصيه إلا الله، ويكفي فيه شرفاً أنه وقت نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا.
أمَّا مجاهدة النفس على القيام فهي من أعظم الوسائل المعينة على قيام الليل؛ لأن النفس البشرية بطبيعتها أمارة بالسوء تميل إلى كل شر ومنكر، فمن أطاعها فيما تدعو إليه قادته إلى الهلاك والعطب، وقد أمرنا الله تعالى بالمجاهدة فقال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)، وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا).
فاللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والصابرين على ما أصابهم، والمقيمي الصلاة، ومما رزقتهم ينفقون.
معيض الربيعي
قيام الليل
وصلة دائمة لهذا المحتوى : http://www.m3llm.net/articles/219008/