إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن صلة الرحم من العبادات صلى الله عليه وسلم الجليلة والأخلاق النبيلة التي ينضبط بها المجتمع، ولو لم يكن في الدين أمرٌ بالصلة والبر للأرحام لكان في الطباع السليمة والأخلاق الكريمة ما يدلّ عليه، فكيف وهو من أول ما بعث به النبي؟! فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأي شيء أرسلك الله؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله لا يشرك به شيء»
بيان الأرحام:
والأرحام درجات، فأعظمها عمودا النسب، وهما الأم والأب ثم ما تفرّع عنهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول! من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك»
وقال الإمام النووي رحمه الله: «اختلفوا في حدّ الرحم التي يجب وصلها، فقيل: كل رحم مَحرَم بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرا حرمت مناكحتهما، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي فيه المحرم وغيره، وهذا هو الصحيح».
حثّ الإسلام على صلة الأرحام.
حثت شريعة الإسلام الحنيفة على رعاية جانب الرحم، وأمرت بصلتها، وذلك من جوانب عدة، منها:
أمر الله عز و جل بصلتها:
فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، فأمر بتقواه، وأمَر بتقوى الرّحم بصلتِها وعدَم القطيعة.
وقال جل جلاله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى﴾.
مدح الله عز و جل الواصلين:
وذلك كما في قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾
اشتق لها عز و جل اسما من اسمه:
لقد خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا عز و جل بوصلِ مَن وصلَها، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قال الله للرّحم: أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك ؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك»، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾.
مراعاة جانب الرحم عند الحساب:
يقول صلى الله عليه وسلم: «لمَّا خلق الله الخلقَ قامتِ الرحم فقال: مه، قالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، قال: أما ترضَين أن أصلَ من وصلك وأقطعَ من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك»
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم:
وذلك في أمور كثيرة، ومواقف عدة، منها: أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بصلتها وحذر من قطيعتها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله وصلوا أرحامكم»، وفي حديث آخر يوصي صلى الله عليه وسلم ويؤكد على ذلك، كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أرحامكم أرحامكم»، وقال القاضي عياض: «ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة»
حقيقة الصلة:
قال الإمام النووي رحمه الله: «صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. ومعنى صلة الله لمن وصل رحمه فهي عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه عليهم بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته»
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة صلة الرحم بقوله: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها»
ولا أدفع ابن العم يمشي على شفا ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه وأفرشه مالي وأحفظ عيبه وحسبك
من جهل وسوء صنيعة
ولو بلغتني من أذاه الجنادع لترجعه يومًا إليَّ الرواجع وأرعاه غيبًا بالذي هو سامع مُعاداة ذي القربى
وإن قيل: قاطع
فالواصل حقًّا ليس هو الذي يكتفي بأن يبادل الصلة بمثلها، فيصل من وصله ويقطع من قطعه، وإنما الواصل حقا الذي يعرف واجب الرحم حق المعرفة، هو الذي يصل أقاربه جميعًا حتى من قطع صلته به منهم، لأنه بهذه الصلة لمن قطعه يجعل من نفسه قدوة حسنة لسائر أقاربه، فإن النفوس مجبولةٌ على التأثر بفعل المعروف، فتستيقظ في النفوس دوافع الرغبة في بلوغ الكمال، والتنافس في الاتصاف بأحسن الصفات.
ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم واصل رحمه التي قطعته بالظفر بإعانة الله تعالى له في جهاده مع ذوي رحمه، وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، ولن يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك»
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فكأنما تسفهم الملّ» يعني فكأنما تطعمهم الرمل الحار الذي يكون تحت النار، وفي هذا بلاغة عظيمة في التعبير عن المكابدة التي يعانيها الواصل الملحّ في وصل قرابته مع نفورهم منه وكراهيتهم لجوانب الصلة التي يمنحهم إياها، فصعوبة ذلك تشبه صعوبة إطعام الناس الرمل الشديد الحرارة.
فهذا الذي يصل من قطعه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويحلم على من جهل عليه من قرابته إنما يريد أن يعدِّل موازين الحياة من حوله، ويريد أن يرفع من شأن قرابته نحو الرقي والكمال، لأن الحياة القويمة لا تتم إلا بتواصل الرحم، فهو من أجل أن يوجد الحياة السعيدة في مجتمعه الصغير قد غامر في محاولات تكلفه المتاعب وتحمله الأذى.
فضائل صلة الرحم:
صلة الله عز و جل لمن وصلها:
كما أن الأرحام تقوّي المودة، وتزيد المحبة، وتطرد الوحشة، وتشدّ عرى القرابة، وتزيل العداء، فلفظها يدلّ على الرقة والعطف والرأفة، فإنها سبب لصلة العبد بربه عز و جل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم شجنة من الرحمن معلقة بالعرش تقول يا رب إنى قطعت يا رب إنى أسىء إلى يا رب فيجيبها ربها فيقول أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك»، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه عن ربه عز و جل: «قال الله أنا الرحمن أنا خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ومن بتها بتته».
في صلة الأرحام رغد العيش:
ففي صلتها الهناء والسعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه». وأينا لا يسره بسط الرزق وبركة العمر؟! وهذا جزاء عاجل يحصل عليه واصل الرحم في الحياة الدنيا، إلى جانب ما أعده الله تعالى له من الثواب الجزيل في الآخرة .
صلة الرحم من الإيمان:
فيقول صلى الله عليه وسلم: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم ضيفَه، ومَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحمَه، ومَن كان يؤمن بالله واليَوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»
صلة ينجي من المهالك:
فصلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا، فلمَّا ابتَدأ الوحيُ بمحمّد في أوَّل الوحي خشِي ممَّا رَأى، فأتَى لخَدِيجة فحدَّثَها بما رَأى، فقالت: «كلا، واللهِ ما يخزيك الله أبدًا؛ إنّك لتصِل الرّحِم، وتقري الضَّيف، وتكسِب المعدومَ، وتعين على نوائبِ الحق».
مضاعفة أعمال البر في حقهم:
فإنَّ صلةَ الرحم أفضلُ الصدقات وأعظمها، فقد أعتقَت أمّ المؤمنين ميمونة رضي الله عنها جاريةً لها فأخبرتِ النّبيّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «فعلتِ ذلك؟» قالت: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّك أعطيتِها أخوالَك كان أعظمَ لأجرك مع أنَّ العتقَ فيه فضلٌ عظيم، ومَن أعتق مملوكًا له أعتق الله من كلِّ جزءٍ منه جزءًا من النار.
صلة الرحم من موجبات الجنة:
فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد وفق» أو «لقد هدي»، ثم قال: «كيف قلت؟» قال: فأعاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك»، فلما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن تمسك بما أمر به دخل الجنة».
تعجيل ثواب الصلة وعقاب القطيعة:
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عقوبة قطيعة الرحم وثواب صلتها وأنهما يعجلان للعبد حسبما يستحق، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابًا لَصِلةُ الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا». وهذا يعني أن صلة الرحم تدفع العقوبة وتجلب المثوبة، ويمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لثواب صلة الرحم في الدنيا بنمو أموال المتواصلين وتكاثر عددهم وإن كانوا فجرة فكيف إذا كانوا أتقياء ؟!
معيض الربيعي
صلة الرحم في القرآن وثوابه
وصلة دائمة لهذا المحتوى : http://www.m3llm.net/articles/217724/