إن الشريعة الإسلامية حرَّمت المُسكِرات والمخدِّرات؛ نظرًا إلى ما فيها من الأضرار الفادحة، والأخطار البادية، وإن الإسلام يَرمِي من خلال تعاليمه النيِّرة، وآدابه الطيبة، إلى الحفاظ على النفسِ، والمال، والعقل، والعِرْضِ، والمُسكِراتُ والمخدِّرات تؤدِّي بصاحبها إلى حِرمانه مما يملِكُ من المال، وإلى إرخاء الستر على العقل، وتعرِّضُه لهَتْك العِرض، والقضاء على النفس.
وكانت المخدِّرات قبل الإسلام شيئًا مألوفًا عند العرب جميعًا، وكانت عندهم كسائر المأكولات والمشروبات في عامة الأحوال،وكانت قد تغلغلتْ في نفوسهم، حتى إنهم كانوا يَمدَحُونها فيشعرهم؛ حيث يبدؤون قصائدَهم عادةً بذكر الأطلال، ثم وصف الخمر.
يقول عنترة بن شداد:
ولقد شَرِبتُ من المُدَامةِ بعدَ ما
رَكَدَ الهواجرُ بالمَشُوفِ المُعْلَمِ
ويقول عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبِّي بصحنِكِ فاصْبَحِينا
ولا تُبقِي خمورَ الأندَرِينَا
فكان مبعثُ النبي الكريم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رحمةً للبشرية جمعاء؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]؛ حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يُحِلُّ لهم الطيباتِ، ويحرِّم عليهم الخبائثَ؛ ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]، وكانت المخدِّرات تعتبرُ في كل زمان مُخزِية لأخلاق الإنسان، وناعية على كلِّ خير وإحسان، فمقتها بعض العرب في الجاهلية أيضًا مقتًا شديدًا، ونَأَوا عنها ونهوا، وبالرغم من ذلك كان معظم العرب وغيرهم في بلاد العجم يحبُّون الخمر حبًّا جمًّا، ويشربونها شربًا لمًّا، فكان النهيُ عنها في الإسلام وتحريمها في القرآن على نحوٍ تدريجي بعد أن بيَّن للناس أضرارها وأخطارها، مصحوبة بالأدلة العقلية، وكانت بداية علاج المخدِّرات في القرآن قولُه - تعالى -: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [النحل: 67].
وكان من عادة العرب في الجاهلية اتخاذ أشربةٍ من ثمرات النخيل والأعناب، وكانوا يصنعون النَّبِيذ المُسكِر، يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية: السَّكَر ما حُرِّم من ثمرتَيهما، والرِّزق الحسن ما أُحِلَّ من ثمرتيهما؛ (تفسير ابن كثير: 4/581).
وكان بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يُشَاهِدون بأمِّ أعينهم ما كانت تفعلُ المخدِّرات فيهم من أفاعيلَ، وما كانت تلعب بهم من ألاعيبَ، وكانوا يرون من أضرارٍ لها فكرية، واجتماعية، واقتصادية، فصمَّموا العزم على تركِها واجتنابها، وتمنَّوا أن تنزل آيةٌ بيِّنة في النهي عن تعاطيها؛ فقد أتى عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وجماعةٌ من الصحابة - رضي الله عنهم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: يا رسول الله، أفْتِنا في الخمر؛ فإنها مَذهَبةٌ للعقل، مَسلَبةٌ للمال، فنزلت الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]، فترك بعضُ المسلمين شربَ الخمر؛ نظرًا إلى ما في الآية من صريح القول - ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ - وأخذ الآخَرون بظاهر القول فيها - ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ - وبينما هم كذلك دعا عبدالرحمن بن عوف بعضَ الصحابة - رضي الله عنهم - إلى وليمة في مقرِّه، فتناولوا الطعام، وأرضوا حاجتهم إلى الخمر، ثم حانت صلاة المغرب فأمَّهم بعض القوم، فخلط الإمام في قراءة القرآن من شربه الخمر، وقرأ الآية: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الكافرون: 1، 2]، قرأ (أعبد) بدون (لا)، فقلب المعنى وعكس، حتى أنزل الله قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43]، فكانت هذه الآية نهيًا صريحًا للمسلمين عن شربِهم الخمر عند أوقات الصلوات الخمس، فتنبَّه معظم المسلمين لآثارها الخبيثة، وآفاتها العظيمة، وكانوا بمعزل عنها، والبعض القليل الذين كانوا قد أَدمَنوا شربَها منذ قديم الزمان لم يمتنعوا منها إلا في أوقات الصلاة، ثم أقام عتبان بن مالك - رضي الله عنه - وليمة ودعا إليها عددًا كبيرًا من المسلمين، وفيهم سعد بن أبي وقَّاص، وحمزة بن عبدالمطلب، فأكلوا الطعام، وشربوا الخمر، ثم أخذوا يتناشدون الأشعار، ويتفاخرون بالأحساب والأنساب، حتى وقعت المشاجرة والمضاربة بين المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، وبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرُهم هذا، فحل النزاع بينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهنا قام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قائلاً: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فأنزل الله - تعالى - قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90 - 91].