كنا نظنه عندما حضر لفصلنا في مادة التربية الفنية بأنه سيكون بديلاً عن معلمنا الأساسي لندرة تغيب معلمي تلك الحقبة عن مدرستهم وهو ما أفرحنا كثيراً بالنظر لما سمعناه عنه من قبل زملائنا في صفوف أخرى يقوم بتدريسهم من طيبة نفس وحسن معاملة غير أن هذا الظن لم يكن في محله حيث اتضح لنا فيما بعد بأنه مُعلم منتظر ولكنه مع هذا قام بكل ما تستوجبه الحصة من مهام تدريسية على أكمل وجه ، فبعد أن دخل لفصلنا بدأنا بتحية الإسلام ثم كتب على السبورة موضوعاً بعنوان شجرة الباذنجان وبعد شرحه لفوائد هذه الشجرة اصطحبنا إلى فناء المدرسة وأجلسنا على بُسط مفروشة على الأرض وهي أشبه ما تكون بالسجاد حالياً تحت ظل شجرة وهي من مجموعة أشجار تزينت بها تلكمُ المدرسة الابتدائية ومن ثم كلفنا برسم هذه الشجرة وبينما نحن منهمكين في رسمها أخذ يتنقل بيننا متابعاً وموجهاً ومرشداً في آن واحد وقبيل انتهاء الحصة قام بجمع كراساتنا وأطلع عليها وأخذ يشيد ويثني علينا جميعاً ثم ما لبث أن ذهب لإدارة المدرسة على وجه السرعة ليعود ثانية حاملاً معه عدداً من كراريس الرسم الموسومة (نظر بالشفاف) والتي نحسبها في ذلك الزمن بمثابة دروع ذهبية وزعها علينا في جو مُفعـم بالبهجة والسرور حتى إذا ما انقضت هذه الحصة وأعادنا بصحبته لفصلنا ومن ثم ذهب بعيداً أخذنا نتهامس فيما بيننا قائلين : يا حظ من يدرسهم .هكذا تجلى معلمنا في تلك الحصة المتميزة وحتى لا نطيل عليكم لإحساسنا بمدى تشوقكم لمعرفته فإنه استاذنا الوقور أحمد محمد طعيمه والذي لم تتوقف علاقتنا به عند حد تلك الحصة ومادة التربية الفنية التي درسنا إياها وإنما ظلت كذلك في ذاكرتنا حتى اليوم فهو بقدر ما حببنا بنفسه الخلوقة بقدر ما حببنا أيضاً بهذه المادة بل وأوقد فينا نزعة الغوص في غمارها إلى الحد الذي دفعنا لدراستها إلى جانب تخصصنا الجامعي في مادة الجغرافيا مما كان لها الأثر الإيجابي في مُجمل أنشطتنا الحياتية لا سيما فيما يتعلق بتضاريس الأرض وعلوم الطبيعية والاستفادة منها في تبسيط هذه الموضوعات وقتما كنا نقوم بتدريس الطلاب لهذه المادة الأخيرة بعد تخرجنا في ظل عدم توفر وسائل إيضاح كافية آنذاك ، ولأن الشيء بالشيء يذكر ومن باب الأمانة فإن أستاذنا أحمد بهذه الشخصية التي توشح بها على تقوى من الله في زمن عز فيه بمثله اتسم بالحكمة والحلم والصبر وسعة الصدر والبشاشة والرحمة والشفقة والأمانة والإخلاص وتحمل المسئولية علاوة على تمكنه في مواد تدريسية ومهارته في استمالة طلبته والتأثير فيهم ومقدرته الفائقة في إدارة فصولهم وكيفية التعامل معهم حتى في ساحة المدرسة أثناء الطابور الصباحي والفسحة والحفلات المدرسية الختامية متجاوزاً بهذه الرؤية الثاقبة الطرق والأساليب التقليدية السائدة في ماضي تعليمنا من حفظ وتسميع وترديد ومستعيضاً بدلاً عنها بطرق وأساليب حديثة جاذبة ومشوقة ومُشجعة ومُحفزة وكأنه يعيش حياة الحاضر وإن شئتم فقولوا سابقاً لعصره إن جاز هذا التعبير فهو أنموذجاً رائعاً للعقلية المفكرة والنيرة والعطاءات المتقنة اللامحدود فيما يقوم به من أعمال ومهام في هذا المجال وغيره زمانياً ومكانياً ، وهي الصفات والمقومات التي نعتبرها مرتكزاً أساسياً لمن امتطى جواد هذا العمل التربوي والتعليمي لخدمة المجتمع والوطن على حد سواء ، ويا ليت شعري كم مجتمعنا بحاجة ماسة لمثل هذا الدور المتميز وإلى كل ما ينمي في الأبناء الطلاب التفكير الإبداعي والخلاق وفي حل المشكلات التي قد تواجههم بعيداً عن التسلط والقهر والكلمات الجارحة وتثبيط العزائم واستخدام الضرب كما يحلوا لبعض المعلمين وقتما تختفي عين المراقب وهي الطرق التي من شأنها جعلت من مُعظم طلبة التعليم قديماً وكأنهم نسخة طبق الأصل فيما تعلموه وهو ما لا يخفى على الباحثين والدارسين. مختتمين مقالنا هذا بالشكر والعرفان والامتنان لأستاذنا أبي محمد معتبرين بأن ما سطرناه بحقه في هذا المقام ما هو إلا نُذر يسير من وفاء يستحقه من لدنا كأحد تلاميذه ، فمن لا يشكر الناس لم يشكر الله وحفظته عناية الرحمن أينما كان .
بقلم / عبد الفتاح بن أحمد الريس .