إن التجديد في طرائق التدريس بصفة خاصة، والبيئة التعليمية بأكملها بصفة عامة أصبح ضرورة في هذا العصر ، وكذلك ما تتعلمه الطالبة في قاعة الدرس والمؤسسة التعليمية. الأمر الذى يتطلب أن تتخلى عملية التعليم والتعلم في الاستظهار وحفظ المعلومات منفصلة عن تطبيقها العملى، وأن تتحول المعلومات إلى مخرجات تتسلح بها الطالبة في فهمها وتعاملها مع ذاتها ومع غيرها، لمواجهة تحديات العصر بفكرها، وإيمانها ، وعملها في تجاوز الواقع وإحداث التحولات الفاعلة للتغير والتطوير.
وسأقص في مقالتي هذه تجربة من تجاربي التربوية التي منحها الله لي وتعلمتها من أساتذتي العلماء في علمهم وأخلاقهم الذين تتلمذت على أيديهم ــ رحمهم الله ــ وأيضا من الاطلاع المستمر على كتب علماء التربية ، بالإضافة إلي ما منّ الله على من الخبرة .
ومن الموضوعات التي قرأتها والتي لها علاقة بموضوع المقال والتي طبقتها مع طالباتي، موضوع يعتبر من أهم إنجازات العلم الحديث مرتبط بالمخ البشرى، فقد أثبت العلم أن هناك ذكاءات متعددة منحها الله لكل فرد ، قد يكون مستوى أحد هذه الذكاءات لدى فرد واحد مرتفعا، بينما ينخفض لديه نوع آخر من تلك الذكاءات نفسها، بمعنى أن كل فرد يتمتع بجميع أنواع الذكاءات ولكن بدرجات متفاوتة.
لذلك كنت مقتنعة تماما بأن تنوع هذهالذكاءات بين طالباتي في القاعة الواحدة سيحدث بينهم حوارات ثرية، يكمل بعضهن البعض الآخر ليحقق ما نعبر عنه بذكاء الفريق.
ومنها الذكاء اللغوي وهى قدرة الطالبة على استخدام الكلمات شفهيا بفعالية، وكنت ألاحظه عند الطالبات اللاتي لديهن ملكة الشعر، وتشارك بفعالية في المناقشات. ومن الطالبات من لاحظت أنهن يمتلكن نوعا من الذكاء المنطقي، حيث يستخدمن الأسلوب المنظم الذى يتبع سياقات واضحة ومرتبة، يفهمن السبب والنتيجة والفعل وردة الفعل. ومنهن من منحهن الله الذكاء البدني، فيستخدمن تعبيرات الوجه واستخدام اليدين بسهولة عند الحديث.
وهنا تبدأ تجربتى مع طالباتي ......
مع بداية الفصل الدراسي الأول في إحدى السنوات عندما كنت أقوم بالتدريس ......وعندما كنت أدخل قاعة المحاضرات لإلقاء المحاضرة كنت أنظر إلى كل واحدة من طالباتي على أنها شخصية مستقلة لها ما يميزها عن غيرها، وكنت مكلفة بتدريس مقرر النحو والصرف وهو منهج واضح في ملامحه مرن في تفاصيله.
وكنت على يقين أنني أمام مشكلة، فصحيح المنهج واحد، ولكن الطالبات مختلفات في ثقافتهن، ومرجعياتهن، واهتماماتهن، وطرق فهمهن وتواصلهن، وإجاباتهن، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك طالبات من خارج مدينة الرياض ومن مناطق مختلفة من المملكة وأيضا طالبات غير سعوديات..... وكانت هذه هي المشكلة.... التي كان علىّ التعامل معها......
فكيف تعاملت معها في ضوء ما تعلمته من أساتذتي وفى ضوء قراءاتي ، وما وهبه الله لى من علم وخبرة؟
فلقد دخلت مجال التدريس في كلية التربية للبنات في مدينة الرياض بمحض إرادتي، رغبة منى في خدمة تخصصي اللغة العربية وخدمة وطني . فهل اكتفى بالوقوف بين طالباتي ألقى المحاضرة شارحة ومعلقة والسلام.
لذلك قررت أن أكون مختلفة في طريقة التدريس والشرح والتعليق والتشجيع والتواصل مع الطالبات في ضوء ذكاءاتهن المتعددة التي منحها الله لكل منهن.
ففى البداية وزعت الطالبات إلى مجموعات يؤلف بينهن قواسم مشتركة، وبدأت أتعامل مع كل مجموعة بطريق تتوافق مع ما رأيته ، وما لاحظته عليهن من سمات ومزايا أو خلاف ذلك، فهناك طالبات يحببن الشرح اللغوى المنمق، وأخريات يفضلن الطرق المختصرة، وفريق آخر يعشق القصص والشعر والحوارات التفاعلية، حيث التشبيه وربط الموضوع بحالات عملية، وكانت وحدة المنهج والموضوع محل احترام منى ومن الطالبات، فالإطار العام والخطوط العريضة للموضوع والأهداف والنتائج واحدة لدى الجميع ... وأما الاختلاف والتعدد فكان من نصيب التفاصيل وطرق التواصل مع الطالبات.
كنت دائما أؤكد لطالباتي وبطرق مختلفة أنني المسئولة الأولى والأخيرة عن عدم فهم احداهن لأى جزئية من موضوع الدرس ، فلكل منهن مدخل إلى عقلها وثان إلى عقلها، وثالث إلى حواسها. ونظرا لأن الله قد هداني ووضعت يدى على مفاتيح تلك المداخل فلا مجال للفشل ــ بإذن الله تعالى وتوفيقه ــ فالطالبة التي يغلب عليها النعاس، والطالبة التي تسافر خارج المجال الجوي السعودي إلى عوالم شتى، والطالبة التى تنظر إليّ متابعة في الظاهر مع هز رأسها، كل هؤلاء تستطيع المعلمة أن تجعلهن معها في حالة تركيز، وتنوع طرق التدريس والبحث عن مداخل كل شخصية منهن، والقصة تبدو معقدة وصعبة ولكنها بتوفيق الله سبحانه وتعالى تكون في الحقيقة والواقع غير ذلك على الإطلاق، والشئ الذى يدعو للتفاؤل والأمل هو النتائج.
تلك النتائج المبشرة والمبهجة لجميع الطالبات، من اشتهر منهن بالتفوق، ومن عرف بأنهن من المتعثرات دراسيا.
ففي إحدى المرات قررت توزيع الطالبات إلى ست مجموعات، وكلفت كل مجموعة بإعداد بحث في أحد محاور المقرر الذى أقوم بتدريسه (النحو والصرف)، وكان علىّ أن أختار طالبة قائدة لكل مجموعة، وهداني الله إلى أن أقوم بتنوع الاختيارات ثم ارى وأقارن النتائج.
اخترت طالبة متفوقة، وأخرى متعثرة، كما اخترت طالبة متوسطة المستوى الدراسي، وأخرى دون المستوى، ثم تركت المجموعة الخامسة والسادسة اختيار من يقودهن فاخترن أخفهن ظلا وأكثرهن مرحا وحباللحياة، ووافقت على اختيارهن دون تردد.
وبدأت أشجع وأحفز الجميع، وأتعامل مع قائدات المجموعات بالعدل والإنصاف، وبطريقة متساوية ومتوازنة بالاحترام، والثقة ، والود. والحقيقة فوجئت بالنتائج ، فالمتعثرات دراسيا تقدمن الصفوف، وأبلينبلاء حسنا على جميع الأصعدة البحثية، لقد نجح الجميع بتفوق ملحوظ، لكن الطفرات التي تحققت لغير المتفوقات كانت أعلى بكثير من المتفوقات دراسيا، كنت أركز على فكرة الانطباعات السلبية والإيجابية، وكانت الطالبات يتفاعلن معي بطريقة مثيرة ومشوقة.
كنت على ثقة أني لم أفعل المعجزات، وفى الوقت نفسه كنت على ثقة أنني لا أصنع إلا ما يمليه علىّ ضميري وما يجب أن تصنعه كل معلمة في المملكة، مع الرغم من تواضع تجربتي العلمية والعملية والتربوية.
فاختلاف الطالبات في ذكاءاتهن ــ كما سبق أن ذكرت سالفا ــ يتطلب تنويعا مماثلا لطرق التدريس ، واكتشفت أن أبحاثا ونظريات عديدة قد تناولت هذا الموضوع وعالجت تلك المشكلة، الأمر الذى يتطلب من المعلمات إعادة النظر في طرق التدريس في قاعات الدراسة. إذ أن تنوع طرق التدريس في قاعة الدرس (واجب) على المعلمة و(حق) للمتعلمة بما يتناسب وقدراتها وخصائصها دون التمييز بسبب الجنسية أو المستوى الاقتصادي والاجتماعي ، أو القدرات الذهنية وغيرها من الاختلافات.
فالمعلمة هي منسقة وميسرة العملية التعليمية، والمتعلمة هي أهم محاور العملية التعليمية ، والتعليم هو الهدف الأساسيللتدريس، والتركيز على الأفكار والمفاهيم الكبيرة أهم من كثرة التفاصيل التي لا تضيف قيمة علمية لموضوع التعلم. والتدريس يهدف إلى مساعدة المتعلمة على الفهم وتكوين المعنى، بمعنى تحويل المعلومات إلى معرفة تستطيع المتعلمة أن تستخدمها وتوظفها في مواقف متعددة، ولا يهدف التدريس الفعال إلى حشو مخ الطالبة بمعلومات مفتتة وغير مترابطة، ولا ترتبط بحياة الطالبة، ثم تجرى استدعاء هذه المعلومات في الاختبار كدليل ومؤشر على التعلم.
إن التقييم المستمر هو وسيلة اكتشاف احتياجات الطالبات والتعرف على قدراتهن ، وميول كل منهن ، وأنماط تعلمهن ، وتحديد الاختلافات بينهن لتوجيه التدريس لمواءمة هذه الاختلافات. ولتعلم المعلمات بأن كل طالبة قابلة للتعلم وقادرة عليه ، وتريدالتفوق ، فعلينا جميعا مساعدتها على ذلك بتنوع طرق التدريس التي تتناسب مع كل طالبة.
لقد أردت أن أقص إحدى تجاربى التربوية مع طالباتي ، لعل بناتي وحفيداتي من معلمات اليوم الشابات يجدن في تجربتى ما يفيد، رغم قناعتي بقلة بضاعتى، وضعف خبرتي ، ولكنه طمع في أجر المشاركة بتجربتي التربوية ، فعسى أن يكون فيها إفادة لغيرى.
وأنهى مقالى، بقول الله سبحانه وتعالى:
"إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" (هود: آية 88)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 ping