(( التعلّم بالاستبصار ))
ابتداءً لا بد من القول بأن التعلّم بالاستبصار يُمثل أحد أنواع التعلّم . أما تعريفه فهو العملية العقلية التي بواسطتها تصبح المعاني والدلالات والتنظيمات المختلفة لمواقف معينة ، واضحة ومدركة إدراكاً صحيحاً ، بما فيها من قواعد واستعمالات ووظائف ، ومدى فهم الفرد لعناصر الموقف الذي يوجد فيه ، أو بعبارة أخرى القدرة على رؤية الأشياء عن بعد دون الاعتماد على أمور مادية محسوسة ، فيما يعتبره علماء النفس أحد طرائق العلاج النفسي وذلك من خلال تمكن المصاب من رؤية المشكلات النفسية التي يحس بها بصورة واقعية مما يتيح له بذلك فرصة الوصول إلى علاج ناجع أو تعديل سلوكه أو تغييرها بالكلية . ولقد أوضح عالم النفس الألماني ( جورج كهلر ) هذا النوع من التعلّم بهذا المثال قائلاً ( بتصرف ) عندما يجلس الإنسان تحت أشعة الشمس وبعد فترة يشعر بالرغبة في الانتقال إلى الظل أو العكس فإنه بذلك قد أدرك الموقف ككل ، وبالتالي يمكنه أن يفكر في إعادة تنظيم هذا الموقف الذي هو فيه وفي سلوكه أيضاً لأجل أن يتكيف مع هذا المتغيير .
خصائص التعلم بالاستبصار : -
يمكن تطبيقه في مواقف جديدة بالإضافة لإمكانية تنظيم المجال فيه بما يحقق التكيف المطلوب للكائن الحي .
يتميز بعنصر المفاجأة ومن مرة واحدة بعكس التعلم بطريقة المحاولة والخطأ الذي يحتاج لمحاولات كثيرة .
تتفاوت فيه درجة الاستبصار من شخص لآخر طبقاً لمستوى الذكاء والخبرة السابقة والعمر الزمني لكل منهما.
المحاولات في هذا النوع من التعلم ربما تكون فاشلة في بداية الأمر، ولكنها فيما بعد تؤدي إلى نتائج إيجابية غالباً. قابليته للتعميم وأن احتمال الانطفاء أو النسيان فيه ضعيف بعكس التعلم بطريقة الحفظ والذي سرعان ما يفقده المتعلم ، فالمعلم حينما يطلب من تلاميذه إيجاد مساحة مستطيل عن طريق الفهم يكون بذلك أكثر رسوخاً من إيجاد هذه المساحة عن طريق الحفظ ، فبدلا من إعطاء المعلم تلاميذه النتيجة بصورة جاهزة يرشدهم لتقسيم هذا المستطيل إلى مربعات صغيرة متساوية الاضلاع ومن ثم القيام بجمع هذه المربعات لاستخراج المساحة الكلية للمستطيل. يعطي نتائج فورية من خلال رؤية الحل وفهم العلاقات بين الأجزاء المتصلة بالموقف مما يشعر المتعلم بالارتياح التام نظراً لتوصله إلى إدراك المعنى المؤدي إلى تحقيق الهدف المطلوب .
يثير الفضول وحب الاطلاع لدى المتعلمين بالإضافة لتنمية التفكير الإبداعي لديهم .
العوامل التي تساعد على حدوث الاستبصار :
- النضج الجسمي أو العضلي للكائن الحي ، فالتعجل في تعليم الأطفال بعض المهارات العضلية قبل أن تنمو عضلاتهم يعرضهم لمشكلات نفسية عدا كونه يعيق سير نموهم .
- النضج العقلي أو القدرات العقلية تختلف بالطبع من شخص لأخر ومن هنا ينبغي اخضاع المشكلات المراد تعلمها بناءً على اختلاف نسبة الذكاء فيما بينهما .
- تنظيم جميع عناصر الموقف تنظيماً سليماً من شأنه يؤدي إلى حل المشكلات .
الخبرة السابقة للكائن الحي تساعده على تفهم مدلولات الأشياء التي يراها لأول مرة ، ولكن بصيغة جديدة تساعده على تعديل سلوكه كما في قوله تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) .
*** أبرز قوانين التعلم بالاستبصار :
* قانون التقارب : ويعني أنه كلما تقاربت الأشياء من بعضها البعض مكّن المتعلم من إدراكها كمجموعة وليس كوحدات منفصلة أو بمعنى آخر الأشياء المتقاربة في الزمان والمكان يمكن إدراكها على أنها وحدة متكاملة بعكس الأشياء المتباعدة .
* قانون التشابه : ويقصد به أن جميع الأشياء المتشابه في الشكل والحجم واللون والتركيب تميل لبعضها البعض وترتبط أيضاً فيما بينها بسهولة مما يجعل المتعلم يدركها على أنها كلا لا يتجزأ .
* قانون التكميل : ويعني أن المتعلم قد أدرك الأشياء الناقصة على أنها مكتملة غير أنه سرعان ما يصاب بالتوتر ما لم يُكمل هذا النقص .
** معوقات التعلم بالاستبصار :
وجود صعوبات أو معوقات حيال الموقف أو المشكلة المراد حلها .
افتقار الفرد للدافع الذي يقوي من عزيمته وما يلزمه من بذل جهود حثيثة للوصول إلى هدفه .
عدم وجود خبرة سابقة بالموقف الذي يتعرض له الشخص .
تشتت الانتباه نتيجةً لتعدد المثيرات .
عدم إدراك الفرد للموقف الذي يحدث له بشكل كلي .
**تطبيقات تربوية على التعلم بالاستبصار :
* يساهم في تهيئة الطلاب لفهم دروسهم من خلال إعطائهم المعلم فكرة عامة قبل الشرح والتفاصيل كما أنه يلجئ المعلم من ناحية أخرى للاهتمام أكثر بتفهيم طلبته لهذه الدروس بدلا من تكرارها .
* يساهم في تعلم الأطفال القراءة والكتابة من خلال اتباع الطريقة الكلية بدلا من الجزئية أي تعليمهم جملا وكلمات بدلا من الحروف فقط كما هو متبع في التعليم قديماً .
* الاستفادة من فكرة الكل يسبق الجزء كرسم لوحة فنية بشكل عام ومن ثم القيام برسم الأجزاء المتبقية لها تدريجياً ، وينطبق ذلك في حالة تحديد موقع مدينة بذاتها بحيث يتم تحديدها على خارطة للعالم ومن ثم على خارطة للدولة التي تنتمي إليها يلي ذلك الدخول في التفاصيل التي تخص هذه المدينة .
* الاستفادة من هذا التعلم في مجال الرياضيات ، وفي حل المشكلات من خلال حصر المجال الكلي ومن ثم الانتقال للتفاصيل التي تؤدي إلى حلها بشكل نهائي .
*** هذا ما اتسع له هذا المقام مشيرين في الختام إلى أن كلمة استبصار المسوغ لهذا النوع من التعلّم مشتقة من بصر يستبصر استبصارا ومنها أبصر الرجل أي نظر ببصره ، واستبصر الشيء أي أستبانه ووضح له ، ويقال فعل ذلك عن بصيرة أي عن عقيدة ورأي ، وهناك من يطلق على هذه البصيرة بالحاسة السادسة ومنهم من يعتبرها فراسة . أما في مصطلح علم النفس فيعني الاستبصار قوة الإدراك والفطنة .
عبد الفتاح أحمد الريس
الباحث التربوي والمؤلف والكاتب الصحفي