دأب الوصافون عندما يصفون الإنسان ككائن حي مميز عن بقية الأحياء بوصفه بالحيوان الناطق ،و لكن ربما تكون الصفة المميزة للإنسان عن بقية الكائنات الحية هو أنه قابل للتعلم والتطوير ، قال جل من قائل " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) " العلق.
كانت التربية والتعليم مسئولية الأسرة تخصيصاً وذلك عندما كانت متطلبات التربية بسيطة ببساطة الحياة ، وكانت الأسرة قادرة على نقل خبرة المجتمع إلى الأعضاء الجدد , فكان العضو الجديد يتعلم مهارات أساسية تتطلبها حياته ودوره في المنظومة الاجتماعية ، ومن أهم ما يعلم للطفل القدرة على التواصل والتعبير عن نفسه من خلال لغة مشتركة ، ومن الأهمية كذلك تعليمه مهارات الحفاظ على الحياة من أكل وشرب ومهارات كسب قوته والتي تمثلت عند المجتمع البدائي في مهارة الجمع والالتقاط والتي تطورت إلى مهارة الصيد ثم مهارة الرعي ثم الزراعة ، إلى جانب تقوية وتطوير مهارات أخرى بسيطة يكون أساسها فطري...
تطور الحياة قاد إلى وجوب تطوير التربية والتفكير في بديل غير الأسرة المكونة من أب وأم محدودي القدرة على تعليم أكثر مما يستطيعون ، فكانت حاجة التربية إلى مربي معلم شامل متفرغ يعرف من كل شيء شيء متخذاً من التعليم مهنة، فيكون بديلاً للإم والأب المشغولين بأمور حياتية أخرى, فكان البديل هو المعلم الذي بدأ عمله مع أبناء الطبقة العليا في المجتمع يعلمهم المنطق والأدب والفلك والحساب والطب وأصول الدين وتطبيقاته .....
إلا أن الأمر بتوسع نطاق المتعلمين( عدداً ) وتشعب ما يجب تعليمه قد تجاوز المعلم الواحد وقدراته فكان لزاماً بأن تكون المدرسة ذات التخصصات المتعددة ، وأصبح هناك حاجة إلى إدارة تدير جموع المنتسبين من طلاب ومعلمين وكانت الخطط والفلسفات والنظريات وتنوعت المدارس التربوية وكلٌ له فلسفته ونظرياته ورؤاه .
الحكومات أخذت على عاتقها مهام التربية وأصبح الأمر مهمة ملزمة تتمثل في توفير مؤسسة تربوية بهدف إعداد جيل من مجموعة أفراد يستطيعون التأقلم مع المجتمع والتعاون فيما بينهم بهدف البناء والتطوير .
كون الحكومة قد أخذت على عاتقها مهمة ومسئولية التربية لم يلغِ دور أطراف أخرى كالأسرة والإعلام والمؤسسة الدينية ، والمجتمع الذي يقدم منهجأ مستتراً (( Hidden curriculum ، فأصبح هناك دور إضافي للمدرسة بحيث يتعدى دور المحدث للنمو إلى دور الضابط والموجه للتغيير الحادث خارج إطار مؤسسة التربية ، لذلك عندما نقول إن التعليم المدرسي مسؤول عن بعض الظواهر السلبية كالبطالة وتعاطي المخدرات وانتشار ثقافة الإرهاب ، فإنا قد لا نكون جانبنا الصواب مئة في المئة لكنه لا يعني أن التعليم بمناهجه هو من زرع ثقافة الإرهاب في بعض الأفراد والجماعات أو تسبب في انتشار البطالة لكنها مسؤولية تكمن في أن التعليم لم يقم بدوره في ضبط وتوجيه التغيير الحادث وأن دوره أضعف من دور المؤسسات الأخرى الشريك التربوي ذات الإمكانات الكبيرة ، ولنا أن نقارن المدرسة بالقنوات التلفزيونية ومواقع (الإنترنت) لنتصور حجم الفارق بين مؤسسة التربية المتخصصة وبين القنوات الفضائية وقوتها التأثيرية ، ويبقى التعليم المنظم مسؤول عن أي ظاهرةٍ عامةٍ او محدودةٍ وذلك كونه مسؤول عن غفلةٍ في متابعة المؤثرات الأخرى وعن تغير يحدث بما يوجب توجيهه وضبطه نحو مساره السليم المرغوب فيه ، وبالتالي فإن التعليم بإرثه التقليدي ترك مجالاً للمؤسسات والأفراد الآخرين للتأثير الأقوى ...
المح معالي وزيرالتعليم الدكتور : أحمدالعيسى إلى مشروع خصخصة المدارس معلناً قرب إعلان التفاصيل في القريب بإذن الله (جاء ذلك في كلمته الرئيسة في منتدى التنافسية الدولي 2016 ) .
اليوم ونحن بعيدون عن اللحاق بركب التطور الحادث خارج مؤسسة التربية والتعليم سواء كان خروجاً سلبياً أو إيجابياً ، ونحن في طور و رغبة في خصخصة التعليم ومشاركة أفراد وشركات ينتظر منهم نقلة إيجابية استعصت على جهود وعلى سنوات وعقود وعلى الأموال المرصودة ، فإن التعليم ليس بالشيء الذي يمكن إخضاعه للتجريب ولا للتوقعات الظنية والآمال المبنية على اجتهادات ، بل هي خطوة أو خطوات تستوجب اعداد مسبق باحداث تغيير في الأساس الذي يقوم عليه المشروع التربوي يراعى فيه أهداف وفكر المستثمر .
خصخصة التعليم وتسليم مقاليده من الحكومة إلى أفراد وشركات ربحية يعتبر تحول كبير يستوجب إعادة ترتيب وصياغة لفلسفة التعليم ونظامه ، وإعداد نظام رقابي صادق ثابت مقنن في صورة لوائح تقف عند كل نقطة تجيب على أسئلة كيف ولماذا وماذا ؟؟؟؟ .
الدولة لم تكن في يوم مقصرة في مجال التعليم الذي حظي بالاهتمام الأكبر في ميزانياتها على مر الزمن وتعاقب التواريخ فكانت ميزانية التعليم غالباً الأعلى بين قطاعات الدولة الأخرى .
هناك هيئة أوجدت بأمر ملكي ذات استقلالية بمسمى (هيئة تقويم التعليم) تعمل على تشخيص التعليم وتركز على نواحي القصور، هذه الهيئة بدأت منذ أقل من عام في عملها ولم تعلن بل إنها تحتاج إلى المزيد من الوقت والإجراءات لتعلن لنا نتائج التشخيص والتي بناء عليها يمكن اتخاذ قرارات تطويرية بحجم تخصيص التعليم ,
خصخصة التعليم ليست وليدة اليوم فقد جرب في حدود 14% من مجمل ميدان التعليم فيما عرف ويعرف بالتعليم الأهلية والذي مبدئياً يوضع تحت فاعليته وجودته عدد من الخطوط وتوضع نتائجه بين عدد من الأقواس ، وأقول هذا مستنداً إلى تباينٍ واضحٍ (فاضح) بين نتائج اختبارات المدارس السنوية والتراكمية وبين نتائج اختبارات المركز الوطني المقننة والأكثر صدقاً وثباتاً ، وهي الخاضعة لدراسات وأبحاث وتطوير تحت إشراف مختصون وخبراء عالميون .
إن خصخصة التعليم تستوجب إشرافاً ممنهجاً ودقيقاً و في حاجةٍ إلى وضع قواعد مختلفة تبدأ من إعادة صياغة لفلسفة التعليم وأهدافه ونظامه وإعادة هيكلة لمنظومة التعليم ، وإلى إجابات على أسئلة لماذا وماذا وكيف...
اليوم بعد سويعات من كتابة هذا المقال يفتتح مؤتمر إعداد المعلم الخامس بجامعة ام القرى تحت إشراف كلية التربية ، يركز في حاجات المعلم وواجباته الذي هو للأسف الشديد هو الحلقة الأضعف في منظومة التعليم سواء كان معلم الطلاب داخل الفصل أو معلم المعلمين (المشرف الفني او التربوي) والسؤال هو هذا المعلم المنتظر من سيوظفه وما هو نظام توظيفه وهل سيترك لصاحب الاستثمار الذي قد لايكون له علاقة بالتربية والتعليم ، وما مسار الرضا الوظيفي المهم في عطاء المعلم ونجاحه في حالة خصخصة التعليم ، وأين يتجه من أعد ليكون معلماً إذا لم يجد من يوظفه من المستثمرين .
كيف يكون شكل قيادة التعليم هل ستكون قيادة قادرة على فهم بل وصناعة الفكر التربوي ، أم تبقى الأمور على ما كانت عليه تدار من قبل مدير مجرد معلم أمضى حقبة من الزمن كمعلم يكرر تجربة لسنوات طويلة حتى أصبحت مكون أساس ومعتقد شخصي لا يقبل التطوير ومثله مشرفاً فنياً وآخر تربوياً وثالثاً إدارياً صاحب تجربة عشرين عاما يكرر نفسه في كل عام .
في الخصخصة ومن خلال تجربة التعليم الأهلي أوكل الأمر إلى صاحب القدرة المادية والهدف المادي الذي تاجر بعقول ونمو ابنائنا وعماد مستقبلنا حتى إنه من المجحف المقارنة بين المستثمر في الصحة والمستثمر في الفكر ، فالاستثمار الخاص في الصحة يتطلب التخصص للمالك كان يكون صيدلياً ليستثمر في الصيدلة وطبيباً ليستثمر في الرعاية الصحية والعلاجية .
الشيء المحزن المفرح أن ما ينقص تعليمنا متوفر (حذفة حصاة) وبقوة ، فجامعات المملكة العربية السعودية تعج بالمختصين من المؤهلين المفكرين ممن تعلم في أرقى الجامعات العالمية ومارس التعليم النظري وأجرى البحوث ، وما يحتاج إليه التعليم لايبعد عن المدرسة وإدارة المحافظة أو المنطقة بأكثر من ربع ساعة سيراً على الأقدام ، إنهم نخبة يعملون في قسم الادارة بكلية التربية أو قسم المناهج وطرق التدريس أو قسم تكنولوجيا التعليم أو في قسم أصول التربية وفلسفتها أو في قسم علم النفس التربوي ،جيش من المختصين المؤهلين القادرين يمكن الاستفادة منهم متفرغين تفرغاً كاملاً او جزئياً أو استشارياً أو الجميع ، فهل بعد إغفالهم من المشاركة الفعلية عقوداً من الزمن هل سيكون لهم دور عند خصخصة التعليم وكيف نضمن ذلك .
هناك عشرات من كليات التربية ومنها من هو بتاريخ النقطة الأول في السطر الأول في الصفحة الأولى في كتاب تاريخ التعليم ، ورغم ذلك فهي غائبة تماماً عن الميدان التطبيقي فلا نجد مشاركةً فعليةً ببرامج تطوير أو أبحاث أو استشارات أو مشاركة إدارية تطبيقية أو نظرية ، حيث ينتهي دور الكلية بتخريج معلم يحتاج إلى إكمال إعداد في الميدان ، ولينفصل تماماً عن مصدر إعداده وتطويره ، فهل خصخصة التعليم وتدخل أطراف استثمارية سيوفر دور لكليات التربية وهي أكثر كليات الجامعات عدداً وتنوعاً ، من المشاركة في تطوير التعليم وإدارته ، أم سيبقى الأمر في أيدي من خرج بعد أن ترعرع في بيئة التعليم الجامدة والتي يدين لها بالانتماء وقد أصبح عاجزاً عن أن يحدث تغييراً إيجابياً وأن ينقلب على بيئته وثقافته فيحدث تغييراً ؟؟؟
لا زلت استغرب أن يكون الاتجاه في تطوير التعليم إلى خصخصة التعليم قبل أن يتم تقويم دقيق وصادق لتجربة التعليم الأهلي المحدود ، وذلك ليس للعدول عن خصخصة التعليم وإنما لوضع قانونٍ دقيقٍ ( وليس تعجيزياً ) ولا أن يكون باب من أبواب الفساد وشهادات الزور وبيع الدلائل ، ولكنه تعليمٌ منضبطٌ مبنيٌ على فلسفة ورؤى ولوائح تنفيذية ، وهيئة تحت مسمى هيئة صيانة التعليم والحفاظ عليه ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
نايف الحارثي

إقرأ المزيد
التعليم الأهلي … أين التوجه ؟
وصلة دائمة لهذا المحتوى : http://www.m3llm.net/articles/225914/