لما أضحى الناس مختلفين بنص القرآن الكريم ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين) فإن هذا ما جعل التربية وعلى امتداد التاريخ تختلف من مجتمع لآخر كناتج حتمي لاختلاف الفلسفات والمعتقدات الدينية والقيم الاجتماعية والاعراف والقوانين والأنظمة التي أقرتها وعملت بها تلك المجتمعات ، فبوقوفنا على التربية عند الصينين القدماء على سبيل المثال نجد أنها ركزت في مضامينها على إعداد القادة وتزويدهم بالمعارف التي تتصل بنظام المجتمع لديهم بالإضافة لإعداد عموم أفراد الشعب للقيام بأعمالهم ومهامهم على نحو من السلوك الحسن بينما ركزت التربية عند اليابانيين على إيجاد شعب عظيم يحب وطنه ويخلص لحكومته ويعمل كل ما في وسعه لخدمة مجتمعه في مختلف مجالات الحياة . أما التربية لدى الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى فقد انصب هدفها بالدرجة الأولى على إماتة الشهوات وإهمال الجسم لأجل أن تتنقى الروح وتنجو من عذاب جهنم ، في الوقت الذي رأى فيه مفكرون غربيون ومن بينهم جون لوك بأن التربية لأبد وأن تُعنى بتحقيق ثلاثة أغراض وهي : تربية الجسم وذلك بتقويته للقيام بأعباء الحياة بكل حيوية ونشاط ، وتربية العقل وذلك بتزويده بشتى العلوم والمعارف ، وتربية الأخلاق وذلك بغرس الفضيلة في النفوس ، فيما ركز بعض المفكرين الانجليز على تربية اليد ، والرأس ، والقلب ، والتي اطلقوا عليها مسمى الهاءات الثلاثة نظراً لبدء احرفها الأولى بالهاء باللغة الإنجليزية Hand, Head , Heart . وذلك لما لها من أهمية قصوى على المحك الفكري والسلوكي في نظرهم . هكذا غدت التربية عبر العصور ، ومع أن غالبيتها قد تضمنت في اطارها العام الحث على الفضيلة والتحلي بالأخلاق الرفيعة إلا أنها مع هذا باتت قاصرة في واقع الأمر في تحقيق ما طمحت إليه تلك المجتمعات من اهداف وغايات في مختلف نواحي حياتهم ، وستظل كذلك إلى الأبد لا سيما فيما يتعلق بالسمو بالأخلاق والذي من غير الممكن تحقيقه البتة مالم يتوافق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) والفطرة بحسب قول المفسرون تعني دين الله الإسلام كما يؤكد ذلك القرآن الكريم بقول الله تعالى ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ولكون السلوك الإنساني لا يستقيم إلا باتباع هذا الدين القويم ، فان هذا ما يجعلنا نؤكد ومن على هذا المنبر الوضاء بان التربية الإسلامية هي أنجح وسيلة لتحقيق ذلك . لِـمَ لا ؟ وهي من أهدافها وغاياتها بناء الانسان المسلم وإعداده لأن يكون إنساً تقياً وورعاً ومواطناً صالحاً وفاعلا في مختلف جوانب الحياة فضلا عن اهتمامها البالغ والمستمر بمختلف مكونات الإنسان الروحية والجسدية منذ لحظة ولادته وحتى مغادرته هذه الحياة على اعتبار هذا الإنسان في نظرها وتصورها العام جزء لا يتجزأ من كينونة واحدة وان الله خالقه لعبادته وهو مطالب في ذات الوقت بإعمار الأرض بشتى الطرق والوسائل الممكنة وله الأجر العظيم يوم القيامة إذا ما كان مخلصاً لله ، ولطالما أشرنا آنفاً إلى تربية اليد والرأس والقلب بحسب ما ذهب إليه بعض المفكرون الانجليز ، فإن التربية الإسلامية تحرص كل الحرص على أن اتخاذ اليد وسيلة لتحقيق مكتسبات نافعة لصاحبها كأن يستخدمها في الكتابة والفلاحة والصناعة مثلاً مقابل التحذير من استخدامها في السرقة حفاضاً على الممتلكات العامة كما أنها من زاوية أخرى بقدر ما تحث هذه التربية الحقة على إعمال العقل من خلال التفكير الإيجابي والخلاق كالتفكير في النيل من مكاسب معيشية أو التفكر في ملكوت السموات والأرض ليزداد بذلك إيمان الفرد المسلم بالله تعالى وتحذره في الوقت نفسه من استخدام هذا التفكير فيما يضر الذات والإنسانية جمعا من خراب ودمار تعمل من ناحية أخرى على غرس الفضيلة في النفوس وتؤصل روح اليقين والمحبة ويقضة الضمير في القلوب مقابل تخليصها من الحقد والكراهية والضغينة وضعف البصيرة وموت الضمير ، ولو استرسلنا لقلنا أيضاً بأنها مبعث للسكينة والأمن والاستقرار والراحة النفسية وللقارئ أن يعرف عن كثب بأن التربية الإسلامية تعلمنا دائماً كيف نعبد الله على بصيرة ؟ وإذا ما خشي غير المتزوج على نفسه من الوقوع في براثن الحرام سواءً بالنظر أو بالممارسة الفعلية حثته على الزواج لتفادي مخاطره وعقوبته ، وهلم جرا بالنسبة لسائر الحاجات الإنسانية من اكل وشراب ونوم ، واستشفاء من الامراض ، وتعليم ، وترويح عن النفس ساعة بعد ساعة لكيلا تمل أو تكل ، ولعل في هذا القدر ما يكفي للدلالة على مدى عظمة وأهمية هذه التربية الحقة والتي ما اجدرنا بالتمسك بها وتربية أبنائنا وبناتنا من أساسها لكي نسمو جميعاً بها على سائر أمم الأرض قاطبة ، ولنتمكن بالتالي من حمل مشاعل الخير والهدى والنور إلى عامة الناس في ظل عالم طغت فيه الماديات على حساب مكارم الاخلاق ، وكثرت فيه الفتن والقلاقل والضلالات . قال تعالى وهو ما نختم به مقالنا هذا ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) وبالله التوفيق
بقلم :
عبد الفتاح أحمد الريس
الباحث التربوي والمؤلف والكاتب الصحفي
الهاءات الثلاثة
وصلة دائمة لهذا المحتوى : http://www.m3llm.net/articles/224211/