تعتبر عملية التواصل - أياّ كانت الطريقة المستخدمة فيها – حجر الزاوية والقلب النابض لكل شيء نفعله في حياتنا اليومية، فعن طريقها يتم نقل الأفكار والمشاعر والأحاسيس والمعتقدات والآمال والإبداعات إضافة إلى الخبرات الحياتية المختلفة . ومن المعلوم بل والثابت كذلك أن لكل إنسان منا حاجة عميقة الجذور لتبادل الأفكار مع الآخرين، والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه التي تدور في خَلَده أو تجيش بخاطره، فلك أن تتصور مثلا أن الرضيع لديه مميزات فريدة في عملية التواصل مع من يقومون برعايته فيكون تواصله عن طريق اللمس, وربما تم ذلك التواصل عن طريق القناة البصرية وهو ما يطلق عليه علميا التواصل البصري.
وتزداد عملية التواصل أهمية بالنسبة للأطفال بشكل خاص حين تتم بينهم وبين من يقومون على رعايتهم، حيث تنمي المشاعر بين الطرفين وتُكسب الأطفال العديد من المفردات والكلمات التي تؤدي بالتالي إلى بناء مهاراتهم اللغوية بشكل جيد وفي مرحلة مبكرة من أعمارهم. ويمكن إثراء تلك المهارات لدى الطفل من خلال تفاعله مع والديه وباقي أفراد أسرته، أو من خلال سماعه للحوارات التي تدور بين القائمين على رعايته وجيرانهم وأصدقائهم.
وحينما يبلغ الأطفال سن السادسة – وربما قبلها بقليل بالنسبة لبعضهم - يصبحون أكثر اهتماما باللغة، حيث يبدأون في الاعتماد عليها كوسيلة أساسية للتعلم والتفكير. ومن هنا فإنهم عندما يلتحقون بالمدرسة تكون لديهم القدرة على تبادل المعلومات مع الآخرين من خلال التواصل اللفظي (أي الكلام) اعتمادا على ما يملكونه من ثروة كبيرة من الكلمات. وبناء على ذلك فإننا نجد مصممي المناهج التعليمية في المرحلة الأولى من المدرسة يقومون بتصميم وإعداد تلك المناهج على أساس من معرفتهم بأن الأطفال يدخلون المدرسة ولديهم قدر كاف من الإلمام بالمهارات الأساسية للغة، فيكون تركيزهم على كيفية مساعدة هؤلاء الأطفال على القراءة والكتابة وتعلُّم المهارات الحسابية، وكيفية بناء العلاقات الشخصية مع الآخرين، وبذلك يغدون في جاهزية تامة لاكتساب المزيد من المعلومات من خلال المواقف التعليمية المختلفة، مما يؤدي بالتالي إلى تحقيق الهدف النهائي وهو تحقيق علاقات اجتماعية سوية مع الآخرين, واكتساب القيم المجتمعية وتحقيق الاستقلالية والوصول قيما بعد إلى مرحلة النضج والاكتفاء المادي .
وعلى النقيض من ذلك فإننا نجد ان كمّ الاتصال وكيفيته لدى الاطفال الصم( الصم وضعاف السمع) يختلف بوضوح شديد عن أقرانهم من الأطفال السامعين، فمعظم الأطفال الصم المولودين لآباء سامعين يواجهون الكثير من الصعوبات حيث يستخدم ابائهم اللغة المنطوقة كوسيلة للاتصال بالآخرين مع عدم امتلاك اولئك الاباء أي معلومات او خبرات عن مجتمع الصم وثقافته، كما يفتقرون الى الفهم الكافي لمعنى الصمم لان الصوت جزء لا يتجزأ من حياتهم اليومية الى الحد الذي يصعب معه تخيل أن الكلام والأحاديث غير مسموعة وغير مفهومة .
وعندما يدرك الآباء ان ابنهم اصم فمن الطبيعي ان يواجهوا العديد من التحديات التي يأتي في مقدمتها الفهم الكامل لتأثير فقد السمع أو ضعفه على الفرد ، واذا اختار الوالدان لغة الاشارة كلغة اساسية للتواصل مع ابنهم فهم بحاجة الى الاتجاه الى تعلم لغة الاشارة من اجل الشروع في بناء قناة تواصل مبكرة معه أي خلال السنوات الاولى من تعلم اللغة.
ويتعامل المهتمون برعاية وتربية الاطفال الصم في الغالب مع الجانب الشعوري والجانب البراجماتي (العملي) لفاقد السمع ونتيجة لذلك فان كم وكيف التفاعل مع الاطفال الصم اقل من الحد المتعارف عليه بينهم وبين القائمين على رعايتهم، وكذلك فان التفاعل مع بقية افراد الاسرة يمكن الا يحدث لكون الفقدان السمعي يغير من طريقة تعامل الناس مع الافراد الصم, كل هذه العوامل تؤدي بالأطفال الصم الى الحرمان من الخبرات اللازمة لتنمية اللغة والمفاهيم المعرفية .
ويؤدي فشل الأطفال الصم في إنشاء العلاقات الشخصية مع الأطفال الآخرين إلى انعدام إجراء الحوارات الهادفة التي تؤدي إلى الحصول على المعلومات، وبالتالي فإن الأطفال الصم يبدأون تعلمهم في المدرسة بمهارات تخاطب ضعيفة جدا وحصيلة لغوية محدودة للغاية، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ان المهارات التخاطبية والمعرفية تلعب دورا حيويا جدا في عملية التتابع المنطقي في تفسير الأحداث المختلفة، وفي عمل الاستنتاجات والتصميمات للمواضيع المختلفة، إضافة إلى دورها الأساسي في فهم الأسباب وتأثيراتها، وعمل المقارنات بين الأشياء المختلفة، وبالتالي فإن ذلك كله يؤدي بهم إلى الإخفاق في تحسين مستوياتهم الأكاديمية .
وبالإضافة إلى المشكلات التي يعاني منها التلاميذ الصم فإن أسلوب عرض المناهج الدراسية يضيف إلى معاناتهم تحديا من نوع اخر ومزيدا من المشكلات المتشعبة؛ ذلك أن المناهج في المرحلة الابتدائية تعتمد على الترميز في بعض الأحيان، بالإضافة إلى ان اللغة التي يستخدمها المعلمون في تدريس تلاميذهم هي أقرب ما تكون إلى اللغة الكتابية منها إلى اللغة الحوارية، ومن هنا تبرز مشكلتهم الأعظم التي تكمن في عجزهم عن استخدام اللغة في صورها المختلفة للحديث عن الأشياء المبهمة وغير الملموسة لهؤلاء الأطفال الصم مثل المفاهيم المجردة كالعبودية ، والديموقراطية، والجراثيم. وغيرها. وبدون القدرة على فهم هذه الأشياء يصبح التلاميذ الصم غير قادرين على مجاراة أقرانهم السامعين في فهم محتوى المناهج التعليمية، وتزداد تلك المشكلة سوءا وتعقيدا عندما ينتقل أولئك التلاميذ إلى المرحلتين المتوسطة والثانوية، حيث يواجهون بمجموعة كبيرة من المصطلحات التجريدية (غير المحسوسة) والمفاهيم المبهمة بالنسبة لهم .
ومن المهم أن نلاحظ أن أهداف التعليم للتلاميذ الصم قد لاتختلف (في الغالب) عن تلك الأهداف التعليمية الموضوعة لأقرانهم السامعين في بلادنا العربية بالعموم والسعودية على نحو خاص ، وبالتالي فإنهم نادرا ما تكون لديهم الخبرات اللغوية والمعلوماتية المتوفرة لأقرانهم السامعين, مما يؤدي إلى التأثير البالغ على تعليمهم وتحصيلهم الدراسي ، لذلك نجد أن مخرجات التعليم (الطلاب) في معاهد وبرامج الصم غير قادره في معظمها على مواصلة تعليمها ما بعد الثانوي . من جانب أخر، فإن العديد من الصم في الدول المتقدمة قد نجحوا في التغلب على التحديات الناجمة عن فقدانهم السمعي أو قصوره، ومنهم من أصبح نموذجاً شهيراً يشار إليها بالبنان في تلك المجتمعات بعد ان هيئت لهم الظروف المناسبة الداعمة لاحتياجاتهم.
وتأسيسا على ما سبق ذكره فإن التحدي الذي يواجه جميع المتخصصين في مجال تربية وتعليم الصم يكمن في الإجابة عن التساؤل التالي: ما هي الطرق والوسائل والاستراتيجيات التي نستطيع من خلالها مساعدة طلابنا الصم على الاستفادة من المعارف والمهارات التي تقدم لهم من خلال المناهج الدراسية بحيث تقودهم إلى بوابة النجاح الحقيقي لا إلى النجاح الوهمي المزعوم؟.
والله من وراء القصد، وصلى الله على نبينا محمد عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون وعلى اله وصحبه أجمعين/ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.