الاعتدال قيمة إنسانية وشرعية شريفة، يتفق العقلاء على طلبها وإنشادها, والثناء بها على الأفراد والأفكار والمواقف، ولم يقع في تاريخ البشر خلاف حقيقي حول أهمية الاعتدال وضرورته، وإنما يقع الخلف في تحديده وماهيته، وما يعتبر اعتدالاً وما لا يعتبر، ومثله الوسطية فهي تعبير عن التوازن والخيرية والعدل، إن إطباق الناس على الثناء على هذا المعنى؛ لهو دلالة عميقة على جدارته بالبحث والاهتمام، وعلى أهمية الوصول إلى محددات واضحة لا التباس فيها حول معناه وما يقصد به، وابتداءً يجب أن يكون الاعتدال قيمة موضوعية حقيقية نبيلة، ولا يجوز أن يتحول إلى معنى سلبي؛ يتسارع الباحثون والكتاب إلى نفيه عن فلان أو فلان، ولا أن يكون موقعاً جغرافياً, ليتحدد بحسب ما يأخذه الآخرون من مواقع، فهذا يمين، وهذا يسار، وهذا وسط، ولا أن يكون أداةً لتكريس الأنانية وتمجيد الذات، فكلنا نقدم أنفسنا على أننا نمثل الاعتدال والوسط، وللآخرين من هذا الشرف بحسب قربهم أو بعدهم منا!
إن هذا يمثل جوراً وعدواناً على القيمة النبيلة التي يفترض أن تحكم الحياة البشرية، وأن تؤسس للالتزام الشرعي، حين نفترض أن الآخرين تجاوزوا الاعتدال، وعليهم أن يعودوا إلينا ليكونوا معتدلين؛ فهذا يعني أننا رسّمنا أنفسنا كمعيار لا يحيد، وهذا خطأ، ويدأب قوم على إطلاق مثل هذه التزكيات أو حجبها؛ تعبيراً عن الرضا أو الغضب، وهذا خطأ آخر، تستطيع أن تبدي موافقتك أو اعتراضك على ما يقوله أو يكتبه هذا أو ذاك، وعلى هذا الموقف أو الرأي، أو المسلك، وأن تحشد الأدلة المعززة لرؤيتك, ولا تثريب في هذا.