إن الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه والصلاة والسلام على الهادي البشير والنذير المبين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
ما أحوجنا اليوم إلى محاسبة ذواتنا، ونحن في زمن كثرت فيه دواعي الشهوات، وتعددت المغريات، وتنوعت الملهيات، فلا بد من الحزم والإقدام، قبل الرحيل وفوات الأوان.
وأنه مما يعين المرء على تلك المحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.
والناظرُ في حالِ الناسِ اليوم، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها، والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر، يقول جل شأنه: (أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حسرتي عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين). وبتركِ محاسبة النفس تسلط الشيطانُ الذي دعا إلى المعصية، وحذّر من الطاعة، وزينَ الباطل، وثبطّ عن العَملِ الصالح وصدّ عنه. وبتركِ محاسبة النفس تمكنت الغفلةُ من الناسِ، فأصبحَ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يبصرونَ بها، ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها، أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضل، أولئكَ هم الغافلون. يقول جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وكتبَ عمرُ بن الخطابِ إلى بعضِ عمُّالِهِ: ((حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة)). وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم
يقول: يا حُنيف، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟
اعلم أن العبدَ إذا حاسبَ نفسهُ فرأى منها تقصيراً، أو فعلَتْ شيئاً من المعاصي، فلا ينبغي أن يهملَها، فإنه يَسْهُلُ عليهِ حينئذٍ مقارفةُ الذنوب ويعسرُ عليه فِطامُها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبةً مباحة، كما يعاقبُ أهلَهُ وأولادَه. وكما رويَ عن عمر رضي الله عنه: أنه خَرجَ إلى حائطٍ له ثم رَجعَ وقد صلى الناسُ العصرَ، فقال: إنما خرجتُ إلى حائطي ورَجعتُ وقد صلى الناسُ العصرَ، حائطي صدقةٌ على المساكين.
إذا حاسبَ الإنسانُ نفسَه، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصيةً أن يُعاقبـَها كما سبق، فإن رآها تتوانى للكسلِ في شيءٍ من الفضائلِ أو وِرد من الأوراد، فينبغي أن يؤدبـَها بتثقيلِ الأورادِ عليها، كما وردَ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه، أنه إذا فاتته صلاةٌ في جماعةٍ فأحيا الليلَ كلَّه! ُ تِلكَ الليلة، فهوَ هُنا يجاهدُها ويُكرِهُهَا ما استطاع.
اعلم أن أعدى عدوٍ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيك، وقد خُلِقتْ أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ، وقد أُمرتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن موارِدِها، وأن تقودَها بسلاسلِ القهْرِ إلى عبادةِ ربِها، فإن أنتَ أهملتها ضلّتْ وشَرِدتْ، وإن لزمتَها بالتوبيخِ رَجونا أن تصيرَ مُطمئنة، فلا تغفلنّ عن تذكيرها
أنا لنفرح بالأيـامِ نقطعُـها *** وكـلَّ يومٍ يُدني من الأجـلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم