انتشر في وقتنا الحاضر الرغبة في التعلم والسعي له وهذا بلا ريب أمر محمود ، لكن ما فائدة العلم إذا غاب الأدب ؟!
فترى البعض يجعل شغله الشاغل جمع العلوم والمعارف ، وتكدس الكتب والدفاتر ، ولكنه لا يملك من الأدب شيء ، و يظن أنه من المفترض أن يبدأ بالعلم وبعد ذلك تأتي الأخلاق وهو مخطئ في ذلك ؛ لأن التعلم قبل التأدب قد يقود المرء إلى الغرور والعجب والكبر وهي أخلاق لا يتصف بها أهل العلم .
لا تحسبنَّ العلم ينفع وحده *** ما لم يُتَوَّج ربُّـــه بخــــلاق
إن حاجتنا للأدب كحاجتنا للعلم ، بل يفترض أن نتأدب قبل أن نتعلم ، ولقد طبق سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ذلك عملياً ، فلقد حرصوا على أن يتعلم أولادهم الأدب قبل العلم ، قال مالك بن أنس : ( كانت أمي تجهز عمامتي وأنا صغير قبل ذهابي لحلق العلم، فتقول: يا مالك خذ من شيخك الأدب قبل العلم!. (
وقال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله : ( طلبت الأدب ثلاثين سنة ، وطلبت العلم عشرين سنة ، وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم ).
وقال : ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم ) .
وفي الزهد لابن المبارك : عن الحسن البصري : ( كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه ولسانه ويده ) .
وأوصى أحدهم ابنه لأنه أدرك أهمية الأدب والأخلاق وأنه أحب إليه من كثير من العلم ، فقد روى الخطيب في الجامع عن إبراهيم بن حبيب الشهيد قال : قال لي أبي ( يا بُني إيت الفقهاء والعلماء ، وتعلم منهم ، وخذ من أدبهم ، وأخلاقهم ، وهديهم ، فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث )
ويرى البعض أن العلم والأدب يكمل بعضه الآخر كما قال أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري قال : (علم بلا أدب كنار بلا حطب ، وأدب بلا علم كجسم بلا روح ).
بل ينكرون على من تزاحم لطلب العلم وهو مفتقر للأدب ، فعن عيسى بن حمادة زغبة قال : سمعت الليث بن سعد يقول (وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا فقال : ما هذا ؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم).
وقال سفيان بن عيينة ، نظر عبيد الله بن عمر: إلى أصحاب الحديث و زحامهم فقال (شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا ).
وإن بُلـــيــتَ بـــقـــومٍ لا خـلاقَ لهم * * * إلى مداراتهم تدعو الضروراتُ
فقل يا ربِّ لطفَك قد مال الزّمان بنا * * * مِـن كـلِّ وجـهٍ وأبلـتـنا البـليَّـاتُ
فانظر كيف حرص هؤلاء على تعليم أولادهم وتلاميذهم الأدب قبل العلم والخلق قبل الفقه ، حتى إذا ما تعلم الطالب وتصدر للتدريس كان لديه من الأدب والخلق ما يحميه من الزلل ويمنعه من الخطأ.
إن لم نأخذ عن سلفنا الصالح الذين رسخت قدمهم في العلم و شابت لحاهم في السنة و التوحيد و بلغوا مبلغ قمة الأخلاق و حسن الأدب ، إن لم نتعلم منهم ، و نكتسب أخلاقهم ، التي بها ننال الدرجات العالية عند الله سبحانه و تعالى ، فمِمَّن نأخذ؟!
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق ، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
بقلم : فاطمة حسين بن مهري الكثيري