
سأبدأ شرح مقالي هذا بمثال، وبالمثال تتبين الأشياء؛ بل والأفكار. وبما أن تخصصي الإشرافي في اللغة العربية فسيكون مثالي الشارح في منهج اللغة العربية، وستلاحظون أن أمثلتي ترتكز –فيما يخص اللغة العربية- على النحو، وهذا يعني أنها تنسحب على أي مادة أخرى قاعدية (أي علم آخر قاعدي)، أي العلوم التي تعتمد على القواعد والنظريات، وهذا يشمل العلوم الطبيعية والرياضيات والفقه وجزءا من العقيدة والتفسير والحديث … إلخ.
في المرحلة الابتدائية من الصف الرابع يدرس الطالب الجملتين الاسمية والخبرية، والمبتدأ والخبر، وأنواع الفعل، والفاعل، والمفعول به، إلى آخره من أساسيات النحو، ثم ينتقل إلى الصف الخامس فيكمل النحو بدراسة أنواع الجمع والتعجب والتمني والترجي … إلخ، وربما يعيد بعض ما درسه في الصف الرابع، وهكذا الصف السادس.
ثم إذا انتقل الطالب إلى المرحلة المتوسطة فإنه يعيد ما درسه في المرحلة الابتدائية (حذو القذة بالقذة) إلا أنه يأخذ تفاصيل أكبر، ويركز أكثر في التفاصيل، وهنا تكمن المعضلة، وتنكشف المشكلة.
المشكلة هنا لها وجهان: أولهما مجتمعي واقعي يرتبط بالحياة المعيشة، وثانيهما يرتبط بطريقة تلقي العلم، ولكل من وجهي المشكلة انسحابات قد تكون في جزء منها مؤثرة تأثيرًا كبيرًا على الجانب النفسي والمجتمعي والأمن الفكري.
سأبدأ بثاني الوجهين المرتبط بطريقة تلقي العلم، فعرض جزء من الصورة وتعليمها للطالب على أنها هي الصورة كاملة، فإذا تلقاها وأيقن بصحتها، وأنها الحقيقة العلمية المطلقة عُرض باقي الصورة وباقي تفاصيلها في مرحلة أخرى، هذا يؤدي بالطالب في مراحل متقدمة إلى عدم ثقته بما يُطرح عليه من قواعد أو نظريات أو غيرها، لأنه –وإن لم يعبر عن ذلك- سينغرس الشك في لا وعيه الذي يوجه كثيرًا من تصرفاته.
إن العلم منذ الخليقة الأولى وحتى يوم الناس هذا ينبني بعضه على بعض، ويطور نفسه، ويطور بعضه بعضًا، ولكي تبني بناء جيدًا، ولكي يتكئ علمك اللاحق على قاعدة صلبة يجب أن تكون القاعدة مبنية من المواد (الصحيحة)، وبطريقة هندسية (صحيحة)، ويجب أن تكون هذه القواعد مبنية من جميع مكوناتها الواجب توفرها، ولو بنيت القواعد من بعض المكونات الرئيسة، وأهملت بعضها فانتظر بناء مائلا، قابلا للانهيار، آيلا للسقوط. ليس ما سبق بناء إسمنتيا؛ بل بناء العلم في الإنسان، فكيف يبني الطالب علمه ونحن نعطيه الصورة غير مكتملة، أي القاعدة غير مكتملة، فنقول له مثلا: تنقسم الجملة إلى جملة فعلية، وجملة اسمية، وأن الفعلية هي الجملة التي بدأت بفعل، والاسمية هي التي بدأت بفعل، ثم نغرس في الطالب أن هذه هي القاعدة المطلقة المتفق عليها، ثم قد يكتشف في مراحل متقدمة من عمره أن هذه ليست حقيقة، بل هي جزء من الحقيقة، (وقد لا يكتشف الطالب حتى بعد أن يكبر)، وكلا الأمرين غير صحي.
قد يعجب قارئي العزيز من المثال، فهو درس طول عمره صحة القاعدة السابقة في النحو، وهذا هو تمامًا ما أقصده، فهو ينطبق على القارئ وعليَّ أنا، فبحكم تخصصي لم أكتشف الحقيقة إلا بعد سنوات طويلة من الدراسة والبحث، ليست الدراسة الجامعية، ولا مرحلة الماجستير؛ بل حضور حلقات علمية في تخصصي جعلتني أعلم هذه الحقيقة.
ماذا يضير لو تعلم الطالب في مرحلة مبكرة من عمره تفصيلا يعرض الصورة كاملة أمامه، فمن خلال المثال السابق ماذا لو قيل للطالب: (الجملة الفعلية ما بدأت بفعل مثل: قرأ الطالب كتابًا، والجملة الاسمية ما بدأت باسم مثل: الطالب قرأ كتابًا)، ولا يُقتصر على هذا، بل يُضاف إليه: (وهناك من يقول: الجملة الاسمية هي الجملة التي ليس فيها فعل في أي من أجزائها، مثل: الحديقة جميلة، والجملة الفعلية ما فيها فعل سواء أكان متقدمًا أم متأخرًا، مثل: الطالب قرأ كتابًا، وقرأ الطالب كتابًا، كلاهما جملة فعلية)، وهنا أشعر أني أوغلت في التخصص ولكن عذري أني أردت أن أوضح الصورة بمثال أعرف تفاصيله.
قد يقول قائل وكيف تذكر مثل هذه التفاصيل لطلاب الصف الرابع وهم صغار أعمارهم تتراوح بين الثامنة والعاشرة، سأجيب بأن لي تجربة في تدريس الصف الأول الابتدائي مادة لغتي مدة ثلاث سنوات، وكانت أول النصائح في أول تجربة أن أحاول أن أنزل إلى مستوياتهم اللغوية وطريقة تفكيرهم لأستطيع إفهامهم والتفاعل معهم، وبعد تجربة سنة فكرت في أن عملي أن أرفع من مستوياتهم اللغوية فكيف أُنصح بالنزول لمستوياتهم، فجربت في السنة الثانية من تدريس الصف الأول استخدام لغة عالية مقارنة بهم، وكانوا في البدايات يستفسرون عن معاني بعض الكلمات فأشرحها لهم، ما حدث بعد ذلك أن الطلاب اكتسبوا هذه المفردات وصاروا يستعملونها فضلا عن أن يفهموها.
أما الوجه الأول الذي أجلت الحديث عنه بعد الوجه الثاني فهو مهم ويؤرقني كثيرًا، ولنعد لمثال الصورة، لأن هذا المثال يعبر عن تصورات الإنسان، لأن المعرفة هي الإنسان، وهي تشكل وعيه، وتوجه تصرفاته.
فلنفترض أني أعطيت طفلا أو شابًا جزءا من الصورة وقلت له هذه هي الصورة الكاملة، ومع مرور الوقت وانقضاء الأيام ومع وسائل التواصل المتنوعة صادف شخصًا عرض عليه هذا الجزء الذي عنده، فقال له إن هذا الذي معك جزء من الصورة وليست الصورة كاملة، فمن يضمن لنا كيف يكمل الشخص الذي صادفه الجزء المتبقي من الصورة، قد يكملها إكمالا سليما، وقد يكملها مشوهة ضنًا منه أنها هي الجزء الصحيح الباقي من الصورة، وقد يكملها بصورة مشوهة قصدًا منه أن يحرِف الصورة عن هدفها ويشوهها.
ما زال ما قيل سابقًا مجرد تصور فكري يحتاج إلى مثال، ومثاله سأحرص أن يكون مما يمس الحياة اليومية في واقعنا الفكري، ولا يمس الحياة اليومية في واقعنا اليوم مثل الدين والعقائد التي هي المحركات الرئيسة للإنسان، وانظر هذا المثال:
يدرس الطالب طول سنوات عمره موضوع المفاضلة بين الصحابة وأنها حقيقة مجمع عليها، وهي في واقع الأمر حقيقة، لكن الصورة الكاملة لا تعرض عليه، مما قد يوقعه في اضطراب معرفي، قد يقوده إلى اضطراب عقدي، وهذا الاضطراب العقدي يجد فيه أعداء الوطن وكارهي الدين بابًا يلجون منه لمحاربتنا من الداخل، فما ندرسه أن الأفضلية لأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم العشرة المبشرون بالجنة، وقد يفصل المعلم فيذكر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وبيعة العقبة.
لنلقي نضرة على مجلة البحوث الإسلامية التابعة للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وهي جهة رسمية تتبع الدولة: (ج78، ص141): “ذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قالوا به سفيان الثوري، ويقال: إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده، وقيل: لا يفضل أحدهما على الآخر، قاله مالك في (المدونة) وتبعه جماعة منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم”.
أنا هنا لا أطرح مسألة علمية، فمكانها معروف، والنقاش حولها له مناسباته وطرقه وأساليبه، ما يخيف أن يتلقى الشاب في المدرسة معلومات، ثم يخرج إلى فضاء الحياة الافتراضية فيجد معلومات مختلفة تناقض ما درسه في المدرسة، وخاصة فيما يتعلق بالدين، فيستغله صانعو الخراب، فإذا استطاعوا إسقاط حجر من بنائه الفكري، استطاعوا أن ينقضوا باقي فكره حجرًا حجرًا حتى لا يتركونه إلا خرابًا.
هذه الصورة في أقسى صورها المؤلمة، ولكن إذا تجاوزنا هذه الصورة القاتمة فإن الأثر السلبي لن يتوقف، فليست هذه هي السلبية الوحيدة، فالسلبية الأخرى تتمثل في جانب تعليمي مهم جدًا، منذ أن دخلت سلك التعليم كنت أسمع الجميع ينادي به ويردده، برغم أني لم أسمع في يوم من الأيام من طريقته أو وسائله أو سبله أو الخطوات الإجرائية إلا بشكل سطحي، ما أقصده هو ربط الواقع التعليمي في الفصل بالحياة، وهذا المثال الذي ضربته يعد انفصالا تامًا بين الواقع وما يتلقاه الطالب في المدرسة، فما يتلقاه خلاف ما يجده في واقعه الحياتي، مما يعني عدم ثقة الطالب بما يتلقاه في المدرسة، وعدم رسوخ ما يتلقاه، وإحساسه بانعدام أهمية ما يدرسه.
خلاصة ما أطرح هنا: أن الطالب ليثق بما يتعلمه في المدارس يجب أن يكون كاملا وليس مجزوءا، فهذا بلا شك خطر فكري قبل أن يكون خطأ تعليميًا.
الأستاذ : عبدالسلام إبراهيم السيف
مشرف اللغة العربية بمكتب التعليم بشرق الرياض