صحيفة التعليم الإلكترونية - الدمام:  

يرتبط «الشتات» في الذهنية العربية بالقضية الفلسطينية، وفي الذاكرة العالمية بتفرق شعب جراء حرب، لكن هذا المعنى يختلف في السعودية، فالشتات هنا ليس خارج البلاد بل داخلها، والسبب الرئيس فيه «التعليم» الذي تنهض به الأمم، فكيف بجهاز يسعى للرقي وتوحيد بالشعوب يكون سبب في فرقة الأسرة الواحدة، فتجد الزوجة تعمل في قرية، والزوج في مدينة، وأطفالهما بينهما، مرة هنا، وأخرى هناك، لذا تجد أن التعليم في السعودية رمز للمفارقة الغريبة للمفهوم العام لأشرف المهن.

وخير مثال للمفارقة، قصة معلم اللغة العربية في إحدى مدارس الرياض خالد محمد، الذي يعيش حال الشتات زهاء ثلاثة أعوام، فزوجته وأم أبنائه تدرّس في قرية الداهنة الواقعة في محيط محافظة شقراء التي تبعد عن العاصمة السعودية 200 كيلومتر.

وعلى رغم تقدمه وزوجته إلى برنامج «لمّ الشمل» الموضوع من وزارة التعليم لجمع المعلمين والمعلمات الأزواج في مدينة واحدة، مرات عدة، إلا أن محاولاته باءت بالفشل جراء الاشتراطات التي يعتبرها «تعجيزية».

ويقول المعلم خالد في حديثه لـ«الحياة»، إن «برنامج (لمّ الشمل) يرفض نقل الزوج إلى مكان الزوجة أو العكس، بل يجبرهم على اختيار نقطة ثالثة يبدأون بها من الصفر للدخول في مفاضلة النقل ولمّ شملهم»، مضيفاً: «وبهذه الطريقة يعززون من غربة المعلمات والمعلمين بنقلهم إلى مدينة ثالثة أخرى، متجاهلين مسألة التكيف ووجود أبناء في المدارس، وعملية نقلهم».

وأسفلت الطرقات والشوارع يحكي قصة هذا الشتات باعتباره شاهداً على حجم الدماء المتناثرة على جنباته ووسطه، وكان آخرها قصة معلمات تبوك والزلفي في العام الماضي، اللائي توفين جراء حادثتين مروريتين أليمتين، بعدما انتظرن لأعوام ماضية، تحقيق رغباتهن ونقلهن إلى مسقط رأسهن للحياة بين عائلاتهن. ومثال هذه التراجيديا السعودية يتجسد في قصة المعلمة أسماء العنزي التي توفيت مع ثلاث من زميلاتها في حادثة مرورية على طريق تبوك – شرما، والتي خلفت وراءها زوجاً وثلاثة أطفال بالمرحلة الابتدائية يعيشون غربة من نوع خاص بعد فقدها. ويوضح الزوج هايل العنزي في حديثه لـ«الحياة»، أنه على رغم مرور ستة أشهر على وفاتها إلا أنه حتى الساعة لم يجد أي تعويض من وزارة التعليم، مضيفاً: «وللعلم أحد المسؤولين عند تواصلي معه لنقلها أثناء حياتها كان يتجاهلني، وفي أحد المرات أغلق هاتفه في وجهي، ولم يعد يجيب عن اتصالاتي حتى وفاتها».

ويشير العنزي إلى حياة الغربة التي عاشتها الأسرة في ظل عمل زوجته بإحدى القرى التي تبعد عن منطقة تبوك أكثر من 200 كيلومتر، وعمله هو الآخر في منطقة جازان (جنوب السعودية) في قطاع عسكري.

وفي مقابل هذا الشتات والترحال، يصطدم واقع المعلمات بالأنظمة الحكومية، لاسيما نظام وزارة الخدمة المدنية الذي ينص على تعويض ذوي المعلم أو المعلمة المتوفى أو المصاب بعجز جراء حادثة مرورية خلال ترحالهم لتعليم أبناء الوطن بمبلغ 100 ألف ريال، وهنا تصرخ الأفئدة: «ما الجدوى إذاً؟!». ومع هذا التعويض الذي لا يتناسب مع حجم الفقد أو الإصابة، نعود إلى قصة زوج المعلمة أسماء الذي لم يتسلم هذا المبلغ حتى ساعة إعداد هذه القصة.

وعلى رغم أن أسر المعلمين والمعلمات يعيشون خلال هذه الأيام إجازتهم السنوية، «المحسودين» عليها من أطياف وظائف حكومية أخرى، إلا أن حركة النقل تسيطر على أذهانهم بعدما أعلنت الإدارة العامة للتعليم في منطقة الرياض حركتها للعام الحالي، والتي جاءت مخيبة للآمال، ودفعت العديد من المعلمات والمعلمين عبر «تويتر» إلى مطالبة وزيرهم عزام الدخيّل بالتحقيق لما يرونه فساداً.

فحركة النقل الداخلية المنتظرة لمنسوبات ومنسوبي «تعليم الرياض»، لم تحقق سوى طموحات 6 آلاف شخص من أصل 18 ألف معلمة ومعلم حلموا بأن تختصر المسافات داخل العاصمة ذات المساحة الأكبر من بعض الدول، والمكتضة بالزحام والمشاريع التي أشهرها «مترو الرياض»، وجعلت لسان حالهم يردد أغنية أحمد عدوية الشهيرة «زحمة يا دنيا زحمة». وحال معلمو ومعلمات الرياض ليس بأحسن من حال نظرائهم ونظيراتهن في الإدارات التعليمية الأخرى، فجميعهم أصيبوا بخيبة أمل واسعة جراء حركة النقل الخارجي المعلنة من وزارة التعليم أخيراً، والتي لم تحقق سوى أحلام 23 في المئة من المتقدمين لها من أصل 62972 معلماً ومعلمة. ولم تفلح البرمجة الحاسوبية التي أعلنتها الوزارة، ولا المدارس الجديدة المشيدة حديثاً أو تحت الإنشاء في مراحلها الأخيرة، في إضافة أي جديد لحياة من باتوا يحفظون حجم المسافات بين المدن السعودية، واكتسبوا معرفة جغرافية بالمملكة الممتدة على مساحة 2.5 مليون متر مربع. لكن قصص الشتات أحياناً تنتهي بنهاية سعيدة، فمعلمة الرياضيات فاطمة عبيد التي اعتادت طوال 1825 يوماً (5 سنوات) التنقل بين مسقط رأسها حائل وقرية الدابية (تبعد 250 كيلومتراً جنوب حائل) مسافة تبلغ 500 كيلومتر ذهاباً وإياباً، عادت إلى حضن أسرتها بعدما حققت حركة النقل حلمها. لكن ذاكرة فاطمة مليئة بقصص الخوف التي اعتادت وزميلاتها في رحلة السفر ليس لطلب العلم بل لإيصاله، مشاهدتها على جنبات الطريق البري المرهق والمؤرق، خصوصاً وأنها وزميلاتها، يغادرن منازلهن قبل ظهور الخيط الأبيض من الفجر في بطن السماء للوصول إلى مدرستهن قبل طابور الصباح في الساعة الـ 7.

وأشهر القصص، بل أغربها التي عاشتها المعلمة فاطمة عبيد وفقا للحياة التي تمثلت في العثور على معلمتين في استراحة مخصصة للصلاة على جانب الطريق بين حائل – كهفة وقد نسيهما سائق حافلة النقل التي تقلهما، ولأن حقائبهن اليدوية التي تحفظ هواتفهن المحمولة في المركبة أصبحن في فضاء فسيح من دون وسيلة اتصال، حتى وصلت إليهما الحافلة التي تقل المعلمة فاطمة ورفيقاتها كقارب نجاة حملهن إلى بيوتهن.

وفي إحدى المرات، تقول المعلمة فاطمة عبيد: «في تلك الاستراحة التي نتوقف فيها لأداء صلاة الفجر تعرضنا لسرقة حقائبنا اللاتي تركناها في المركبة أثناء الصلاة».